الارتباط الوثيق بين علم المناسبات والتفسير الموضوعي
كتاب الله تعالى جنة وارفة الظلال، عديدة الأزهار، متنوعة الثمار، من نظر إليها شاقته، ومن دخلها راقته، وصعب الانفكاك عنها إلا من أبى كمن يأبون دخول جنة الخلود كما جاء في الحديث النبوي الشريف:
فـ«عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى، قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»( ) ، لذلك تنوعت فنون العلماء في تناول موضوعات القرآن الكريم، كل بحسب ما فتح الله تعالى عليه، وأراد إظهار شيء من الخير على يديه. ويأبى الله الكمال إلا لنفسه، والعصمة إلا لأنبيائه فكان من ذلك كتاب. (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور لمؤلفه: إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي؛ المتوفى: 885هـ).
والذي يعتبر فتحاً في ميدانه في الكشف عن الروابط بين الافتتاحيات والخواتيم في الموضع الواحد، أو المواضع المتعددة، سواء كان الأمر بين الآيات أو بين السور، وكان الرابط في هذا كله تشابه الموضوع. ولما كان التفسير الموضوعي يدور حول موضوعات الكلمة، أو الآية، أو السورة، كان الارتباط على أوثق ما يكون بين علم المناسبات والتفسير الموضوعي إذ لا غنى لأحدهما عن الآخر، ولا غنىً للمفسر عن معرفة ذلك كله.
والمناسبة في اللغة: هي «المشاكلة والمقاربة( ) وفي الاصطلاح: الربط بين شيئين بوجه من الوجو( ) بيان وجوه التناسب في ذلك وعند تعميق النظر في ذلك يمكن حصر المناسبات في عشرة أنواع على النحو التالي:
1- المناسبة بين السورة القرآنية ومحورها العام الذي تدور عليه.
2- المناسبة بين افتتاحية السورة القرآنية وخاتمة تلك السورة.
3- المناسبة بين افتتاحية السورة القرآنية وافتتاحية السورة التي تليها في الترتيب.
4- المناسبة بين افتتاحية السورة القرآنية وخاتمة السورة التي تليها.
5- المناسبة بين افتتاحية السورة القرآنية وافتتاحية أي سورة مطلقاً.
6- المناسبة بين افتتاحية السورة القرآنية وخاتمة أي سورة مطلقاً.
7- المناسبة بين مقاطع السورة ومحورها.
8- المناسبة بين مقاطع السورة نفسها.
9- المناسبة بين مضمون السورة ومضمون السورة التي تليها.
10- المناسب بين مضمون السورة فاتحة الكتاب والسورة خاتمة الكتاب.
وبزيادة من التعمق تزداد هذه الأنواع والله أعلم.
ـ هل يمكن اعتبار التفسير الموضوعي اتجاهاً قائماً بذاته؟ وبيان أصالة ذلك.
من خلال الدراسات والبحث فقد تبين أن هذا الذي يجري حول ما يسمى بالتفسير الموضوعي هو اتجاه قائم بذاته لا يمكن تجاهله، فقد تعددت فيه الدراسات والكتابات، وسجلت فيه الرسائل الجامعية، وكشفت عن مناهج البحث في الموضوعات المختلفة، مما جعل له أمثلة عديدة وتطبيقات جديدة.
كما أن كليات الشريعة في الجامعات العربية والإسلامية أولت التفسير الموضوعي أهمية خاصة فكان من مقرراتها على مراحل الدراسة الجامعية مادة التفسير الموضوعي على السواء في مرحلتيها الدنيا والعليا. مما دل ذلك كله على أهمية هذا الاتجاه وأصالته.
ومما يزيد الأمر وضوحاً لهذه الأصالة ويعطيها الإضاءة الحقيقية ما يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفسر القرآن بحسب الموضوع فمن ذلك أنه لما سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن تفسير قوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام59]، ذكر قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) [لقمان( )].
الاتجاه الموضوعي اليوم سار على نفس المنهج، ولكن بشكل منظم وأدق مما تناوله الأقدمون في عرض التفسير التحليلي كما هو ملحوظ في معظم التفاسير. فهو والحال هذه مثل نقل التفسير بالرواية أولاً من علماء الحديث فانفصل وصار علماً قائماً بذاته، فصار ما يسمى بالتفسير التحليلي، والتفسير الموضوعي.
ويشهد لذلك أيضاً ما قاله الإمام الشاطبي في الموافقات: «فيصح في الاعتبار أن يكون واحدًا بالمعنى المتقدم، أي: يتوقف فهم بعضه على بعض بوجه ما، وذلك أنه يبين بعضه بعضًا؛ حتى إن كثيرًا منه لا يفهم معناه حق الفهم إلا بتفسير موضع آخر أو سورة أخرى، ولأن كل منصوص عليه فيه من أنواع الضروريات مثلًا مقيد بالحاجيات، فإذا كان كذلك؛ فبعضه متوقف على البعض في الفهم؛ فلا محالة أن ما هو كذلك فكلام واحد؛ فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار( ).
هذا هو الظاهر الذي يصح التعويل عليه، وأدلته فيه لا تنقض، وأما كونه نزل سورًا مفصولًا بعضها من بعض ببسم الله… إلخ؛ فلا يقتضي استقلال بعضها عن بعض بالمعنى المراد، وكيف يتأتى بناء المدني على المكي، وأن كل منهما يبنى بعضه على بعض إذا أخذت كل سورة على حدتها غير منظور فيها لما ورد في غيرها؛ وأين يكون البيان والنسخ؟ عند من يقول به، ومعلوم أنه لا يلزم في البيان ولا في النسخ أن يكون المنسوخ والناسخ والمبين والبيان في سورة واحدة؛ فقوله: «ولا إشكال فيه» غير ظاهر في كلام الشاطبي رحمه الله تعالى..
كما يؤكد أصالة هذا الاتجاه بديع الزمان النورسي -رحمه الله- حين يقول: «إن آياته مع كمال الانسجام، وغاية الارتباط، وتمام الاتصال بينها متيسر لكل أحد أن يأخذ من السور المتعددة آيات متفرقة لهدايته وشفائه، كما أخذها عموم أهل المشارب والعلوم، فبينما تراها أشتاتاً باعتبار المنازل والنزول، إذا تراها قد صارت كقلادة منظمة ائتلفت، واتصلت أخواتها الجديدة، فلا بالفصل من الأصل تنتقص، ولا بالوصل بالآيات الأخر تستوحش، فهذا السر يشير إلى أن أكثر الآيات الفرقانية مع سائر الآيات مناسبات دقيقة يجوز ذكرها معها واتصالها بها( ).
قلت: ألا ترى أن الإمام في الصلاة الجهرية لو قرأ من سورة البقرة وانتقل لأي سورة من القرآن لوجد الوضع منسجماً لأن الموضوع يكاد يكون واحداً مما يدل على الوحدة الموضوعية في كتاب الله تعالى ليبقى الكتاب معجزا من جميع الوجوه.