ماذا يمكن استخلاصه باختصار مما قمنا بعرضه ومناقشته؟
إن توفي مالك بن أنس عام 179هـ، ومذهبه لم ينتشر على أوسع نطاق إلا بعد ظهور “المدونة الكبرى” إلى الوجود. ومؤلفها الإمام القيرواني سحنون بن سعيد التنوخي المتوفى عام 240هـ. أي بعد وفاة ملهمه وشيخ شيوخه مالك بواحد وسبعين سنة، وقبل ولادة أبي الحسن الأشعري بعشرين سنة، لأنه من مواليد البصرة عام 260هـ.
وقبل ظهور الأشعري على المعتزلة الذين انتمى إليهم واقتنع بأصولهم الخمسة، كانت مواقف وآراء أهل السنة والجماعة من “الأصول” قد نضجت تمام النضج على مستوى النظر، وعلى مستوى التطبيق. إذ من المعلوم أن الدين ينقسم إلى معرفة وطاعة. والمعرفة أصل والطاعة فرع. فمن تكلم في المعرفة والتوحيد كان أصوليا. ومن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعيا. فالأصول هي موضوع علم الكلام، والفروع هي موضوع علم الفقه”.
فالله تعالى عند فرقة أهل السنة “واحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في صفاته الأزلية لا نظير له، وواحد في أفعاله لا شريك له”. وأنه سبحانه “عدل في أفعاله، بمعنى أنه متصرف في ملكه وملكه (بكسر الميم)، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فالعدل وضع الشيء موضعه، وهو التصرف في الملك على مقتضى المشيئة والعلم، والظلم ضده. فلا يتصور منه جور في الحكم وظلم في التصرف”. و”الوعد والوعيد كلامه الأزلي، وعد على ما أمر، وأوعد على ما نهى. فكل من نجا واستوجب الثواب فبوعده، وكل من هلك واستوجب العقاب فبوعيده، فلا يجب عليه شيء من قضية العقل” (أي من منظوره).
فالواجبات “كلها بالسمع والمعارف كلها بالعقل. فالعقل لا يحسن ولا يقبح، ولا يقتضي ولا يوجب. والسمع لا يعرف، أي لا يوجد المعرفة بل يوجب” (الواجبات ويفرض أداءها).
وبما أن مذهب مالك غير منحصر في الفروع، وإنما هو جمع بينهما وبين الأصول، تماما كما نجد عند كبار الأئمة مثل أبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، والشافعي، والأوزاعي، وغير هؤلاء. فإنه لا يمكن الحكم إطلاقا بأننا على مذهبه، وإنما يصح القول بأننا على رأيه في الطاعات، مع التحفظ الشديد على هذا القول ذاته. فقد خالفنا قناعات الرجل التطبيقية، ولا نزال ماضين في مخالفتها؟
وبما أن مذهب أهل السنة واضح كل الوضوح في الطاعات والأصول، حتى أدت شدة تمسكهم به إلى التعرض لجبروت الخليفة العباسي المأمون المتحالف مع المعتزلة القائلين بحرية الإرادة الإنسانية على الصعيد النظري، لكنهم على الصعيد الممارساتي، رحبوا بالمرسوم الذي فرض المأمون لغاية تنفيذه، القول بخلق القرآن على أهل السنة المتخالفين مع رجال الاعتزال في مفهوم التوحيد.
فتعرض كل من رفض العمل بمرسوم 218هـ للتعذيب أو القتل أو النفي. فكان الإمام أحمد بن حنبل ممن عانوا ويلات التنكيل من ضرب وسب وشتم وإهانة على يد جلاوزة طاغية الحاكم بأمره في بغداد. لكنه صمد وقاوم ورفض مسايرة ما أراد النظام فرضه بالقوة على إخوانه من الصفاتيين المنزهين. فجاء صبره وتحمله تشجيعا لأهل السنة كزعيم لهم على الصمود والتصدي.
بحيث إن أبا الحسن الأشعري لم يضف جديدا إلى ما عذب من أجله ابن حنبل، وإلى ما عذب من أجله غيره. فقد رأى بعد مدة قضاها في صفوف المعتزلة، كيف أن أهل السنة على صواب، وكيف أن المعتزلة على خطأ. فانضم إلى صف أهل السنة عن طواعية واختيار، وحتى إن حمل معه -وهو يخرج من دائرة الاعتزال- جديدا، فإن هذا الجديد لا يعدو أن يكون مجرد تأييد لعقيدة أهل السنة بالبراهين العقلية -كما سبق الذكر- وإن كانت قبل ذلك مؤيدة بها من لدن من لهم إلمام بفكر الأئمة والمحدثين الكبار كالبخاري ومسلم وأبي داود إلى آخره.
فلماذا إذن ندعي أن المغاربة على عقيدة الأشعري، والحال أن مسمى عقيدته موجود حتى قبل ولادته! بينما كان من المفروض أن نقول كمغاربة: نحن على عقيدة أهل السنة، أو نحن على عقيدة مالك بن أنس. كما نحن على مذهبه في الطاعات أو في الشق التطبيقي للدين؟
مما يفيد بأننا لم نكن في حاجة إلى الادعاء بأننا تابعون للأشعري في العقيدة، أو نحن على مذهبه فيها، كما قال ابن عاشر في منظومته.
والسؤال المتبادر إلى الذهن هنا هو: هل نكون بعدها في حاجة إلى طريقة الجنيد في التعبد؟ والحال أننا على مذهب مالك بمعناه الواسع لا بمعناه الضيق المحدود في الفروع دون سواها؟
فإن كنا لا نزال نصر على التمييز بن عقيدة الأشعري وعقيدة عالم المدينة، وكأننا نقر بوجود فوارق بين العقيدتين، بينما البحث والتقصي يدلان على أن عقيدة الأول هي نفسها عقيدة الثاني!
فهل نصر كذلك على أننا جنيديون طوال قرون وقرون؟