الاستمدادات التربوية من القصة القرآنية -تابع- أمحمد بن ادريس الخوجة

بعد ما عرضنا في العدد الماضي بعض الفوائد التربوية المستفادة من قصة لقمان مع ابنه، ها نحن نبين المسالك التي دعا لقمان ابنه لسلكها، ومنه نخلص إلى أنه يمكن لأي أب مسلم، أن يسلك ذلك مع ابنه.

المسالك التي دعا إليها لقمان:
مسلك التوحيد: قال الحق عز وجل: “يا بني لا تشرك بالله” سورة لقمان، ومن اتبع هذا المسلك سلمت عبادته من الأهواء والشبهات وهو أصل المسالك وعليه المعول لصحة أي عبادة، لذلك كان من الهدي النبوي أن يؤذن للمولود في أذنه ليكون التوحيد أول ما يلج إلى أذن المولود.
مسلك طاعة الوالدين: قال الحق عز وجل: “ووصينا الانسان بوالديه حسنا” لقمان، ومن العجيب أن طاعة الحق سبحانه قرنت بطاعتهما، كما قرنت طاعته عز وجل بطاعة أولياء الأمور، وكأن طاعتهما تكون على مستوى المجتمع الصغير “الأسرة” وطاعة ولي الأمر تكون على مستوى المجتمع الكبير، وإذا حصلت الطاعة داخل الأسرة -إذا انتفى الشرك-، حصلت الطاعة على مستوى أكبر، ومنه يكون الفرد صالحا للأسرة والمجتمع على حد سواء.
مسلك اتباع سبيل المنيبين إلى الله: قال الحق عز وجل: “واتبع سبيل من أناب إلي” لقمان، وفي ذاك مزايا لا تحد ولا تعد ولا توصف، إذ في اتباع الصالحين وسلك منهجهم لأمر يبعث على التمسك بعرى الإسلام، إذ إن القدوة ضرورة دينية ملحة، فلا يفلح المؤمن إلا بالصحبة الصالحة واتباع ما كان عليه السلف.
مسلك إقامة الصلاة والدعوة إلى الله: قال الحق عز وجل: “يا بني أقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر” لقمان، وهذا مسلك عظيم، من سلكه سار على درب النجاة، وضمن في الدنيا والآخرة كل الحياة، لأنه بالصلاة، لا ينفك العبد عن مناجاة ربه والقرب منه، والأنس بقدره خيره وشره، وإذا اطمأن المرء عابدا لله، جاءت مرحلة الدعوة، والبدء بالأسرة أولى، وعلى رأسهم الأولاد، ولنا في لقمان إسوة حسنة.
ــ مسلك الصبر: قال الحق عز وجل: “واصبر على ما أصابك” لقمان، وهو المسلك الذي لا يحسن السير فيه إلا من حباه الله نفسا طويلا، لذلك كانت وصية هذا الأب ذات قيمة عالية غالية شافية، يجدر بكل أب أن يتبع خطاها، لأن العابد لله في بيئة مليئة بالفجور والعصيان… لا يلزمه إلا أن يسلك مسلك الصبر لاسيما السالكين الجدد وهم الأبناء. ولا بأس أن يدرب الولد على الصبر ليواجه المصاعب وخصوصا تلك التي تتعلق بتعليمه، مع حكي الحكايات التي كان أصحابها يتصفون بالصبر وإن كانت شخصيات القصة قريبة من عمر الولد، فذاك أنفع وأقنع، والحرص على نيل المبتغى، ما أكثر سبله في تراثنا الإسلامي.
ــ مسلك التواضع: ولا يحسن السير في هذا المسلك إلا من هانت نفسه أمام عظمة الحق، وأول أبواب التواضع باب الذل لله، والتواضع مع الخلق له منافذ كثيرة من أهمها:
منفذ إفشاء السلام: ومنه عدم مصاعرة الخد وإدارة الوجه عن المسلم عليه، كيف ما كان غنيا، فقيرا، عالما، جاهلا، صغير أو كبير، لذلك قال لقمان لابنه: “ولا تصاعر خدك للناس” لقمان.
منفذ المشي بسكينة ووقار: هذا المنفذ قلما يؤبه له لكنه منفذ خطير وقد يترتب عليه عدم ثبوت المنفذ الأول، ألا وهو إفشاء السلام لأنه غالبا ما يلجأ المتبختر في مشيته المتعجرف بهيئته إلى عدم إفشاء السلام وما ذاك إلا بتزكية من إبليس لعنه الله. لذلك قال لقمان لابنه “ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور” لقمان.
ـ منفذ التكلم بأدب: غالب الناس يظن أن التأدب في الكلام واللين فيه ضعف، فيلجأ إلى رفع الصوت بالصراخ والنعيق… من أجل الإقناع أو لنيل مبتغى، إلا أن ذلك هو الضعف والوهن والخور بعينه، ولو كان الصراخ يجدي لنفع الكلاب التي تبيت الليل بأكمله تعوي، وصدق من قال:
تخشى الأسود وهي صامتة — وتخزى الكلاب طول الليل نباح
قال لقمان لابنه: “واغضض من صوتك إن أنكر الاصوات لصوت الحمير” لقمان، والأصل في الغض إنما يكون في البصر، إلا أن غالب كلام الرجال والشباب خصوصا، يستهوي النساء، فلا يسلم بصرهم آنذاك من المحظور لذلك قال لقمان لفتاه وفلذة كبده: “واغضض من صوتك” لقمان
والمستفاد من هذا أن لجوء الآباء إلى إرشاد الأبناء عبر وصية لقمان، أمر محمود لأن البدء بالتوحيد هو الأصل، وما جاءت الرسل جميعا إلا من أجل ذلك، وأما الصبر فإنه ينتج نتيجة باهرة، وذلك بسبب تعلق القلب بتوحيد الله عز وجل والصبر على توحيده، وأما التواضع أمام الخالق والخلق فلا مفر منه لنيل المراد، في الأولى ويوم المعاد الذي لا ينجو من مثالبه إلا صاحب التقوى والزاد، إلا أن التوحيد والتواضع كلاهما يحتاج إلى الصبر وصدق القائل:
الصبر كالصبر في مذاقته — لكن عواقبه أحلى من العسل
وعموما فإن المنهج القرآني يدلنا على التلطف مع الأبناء والتواضع لهم، ومناقشتهم وترك الحرية للتعبير عن مواقفهم، كإبراهيم عليه السلام حينما قال لابنه: “فانظر ماذا ترى”، مع أنه كان بإمكانه أن يضغط عليه من أجل الإذعان والاستسلام لأن الأمر مرده إلى الخالق، ولو تدبرت القصص القرآنية السالفة الذكر، لوجدت الدليل على هذا المنهج هو قولهم جميعا “يا بني” وهذا النداء الجميل في الآيات الأربع، جاء قبل الأمر بالفعل أحيانا يا “بني اركب معنا”، وقبل الأمر بترك الفعل كـ”يا بني لا تقصص رؤياك”، خلافا لما عليه أغلب الآباء الذين يأمرون بتسلط ظاهر بين، ويريدون التنفيذ في أسرع وقت، لا لشيء سوى لأنهم آباء، وقد يهددون في حالة عدم تنفيذ الأوامر ولا يحمل التهديد إلا على الكذب غالبا، كما يؤكد على ذلك كثير من علماء النفس، وخصوصا إذا كان يحصل هذا غداة زمن المراهقة، هذه المرحلة الحرجة من عمر الأبناء لا تكلف الآباء العقلاء كثيرا فالقرآن الكريم بين أيدينا وما علينا إلا أن يتدبر الأب الرصين آياته وإذا أعوزه التدبر لجأ إلى السنة وفيها من الصور التربوية ما يعجز اللسان عن تعداده وحده، وهذا بطبيعة الحال مع مواكبة ما يروج في عالم المراهقين من ثقافة وعلاقات… ليستطيع رب الأسرة المتعقل أن يتفاعل مع ابنه، من داخل الإطار لا من خارجه.
وصفوة القول وعصارته أن رب الأسرة لا يسلم من العبث في التربية إلا إذا اتبع الهدي القرآني واستفاد من قصصه، وإلا ما فائدة تلكم القصص؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *