لقد دأب أكثر الناس على احتقار الفقراء، والاستهزاء بهم والسخرية منهم، مع أنهم قد يمتلكون من الطاقات والطاعات ما يؤهلهم للفوز بأعلى الدرجات، فلا يجالسونهم ولا يآكلونهم، ولا يضاحكونهم، ولا يناكحونهم، ولا يسمعون لكلامهم، ولا يزورون مرضاهم، ولا يحضرون جنائزهم، ولا يشاركونهم أفراحهم، وإذا مروا بهم مروا كراما.
وإن قل مال المرء أقصاه أهله *** وأعرض عنه كل إلف وصاحب
وكذبه الأقوام في كل منطق *** وإن كان فيهم صادقا غير كاذب
أما إن كان الشخص ينتمي لطبقة الأغنياء الأثرياء، فإنه يحظى بالتبجيل والتفخيم والتعظيم، ويقدم له الحليب والتمر عبر أنغام وتصفيقات الحشود، وإذا مات أو مرض فإن الدنيا كلها تبكي وتعود، وإن قرر الاحتفاء بالزواج واستقبال المولود، فإن الجميع ينتهزها فرصة للتهنئة وتقديم الورود، ويتعامل مع أقواله كأنها أنزلت من الغفور الودود، مع أنه قد لا يساوي عند الله جناح البعوض، وقد يكون حطبا لجهنم يوم لا ينفع مال ولا سلطان ولا نفوذ.
وعلى النقيض من ذلك، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يكره الفقراء، أو يأنف الدنو من مجالسهم، وهو الذي أمر أن يحبس نفسه معهم، وأن لا يتجاوزهم، وأن لا يحتقرهم طلبا لزينة الدنيا.
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} الكهف.
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تطبيق هذا الأمر بدون مجاملة أو مهادنة.
عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال:
«مرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟
قال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع.
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ثم مر رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم” ما رأيك في هذا؟
فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يُشفع، وإن قال لا يسمع لقوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملئ الأرض مثل هذا”. رواه البخاري برقم 6447.
ما أخشى عليك الفقر
تأكيدا لهذه الحقيقة، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف على أمته الفقر كما يخاف عليها الثراء الفاحش، فإنه إذا كان الفقر شر، فإن الحرص على المال والشرف في الدنيا يدفع الإنسان إلى إتباع سبل ملتوية تتسم بالنصب والاحتيال والانتهازية، بهدف التنافس على الدنيا والتكالب على شهواتها.
والنفس تجزع أن تكون فقيرة *** والفقر خير من غنى يطغيها
وغنى النفس هو الكفاف فإن أبت *** فجميع ما في الأرض لا يكفيها
بينما الفقر مع الصبر والدِّين، وإن كان يكوي صاحبه بالجوع والحرمان، فإنه في أغلب الأحيان قلما يسوقه إلى طريق الشرك واتباع سبل الشيطان، بل قد يحرضه على التقوى والإيمان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم” صحيح مسلم.
ولا ريب أن هذا الحديث علم من أعلام النبوة، حيث حدث ما كان يخشاه الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعدما كان يعاني الصحابة الفقر وقلة المال، ولا يجدون ما ينفقونه في سبيل القتال، تهاطلت عليهم الأموال، وأتتهم الدنيا وهي راغمة، وأغنتهم عن السؤال، وتغيرت الأحوال.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبح المسلمون في الوقت الحاضر يتهالكون على الدنيا كما تهالكت عليها الأمم التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور آنفا، فشغلتهم عن عبادة الرحمن، وسلكت بهم سبل الطغيان، فخالفوا السنة والقرآن.
وحتى لا يشعر القارئ الكريم بالسآمة والملل، أتوقف عند هذا الحد، على أمل أن نجدد اللقاء في أقرب الآجال، وسيكون موضوع دردشتنا في الحلقة القادمة تحت عنوان: “الحكمة من تفاوت الأرزاق”.
وفي انتظار ذلك أسأل الله العلي الكبير، أن يبصر شباب المسلمين بدينهم، وأن يحبب إليهم سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأن يحشرني وإياهم في زمرة الفقراء المساكين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.