من هدْي النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم (2/3) لطيفة أسير

4- القصة:
نظرا لما للقصة من تأثير قوي على المتلقي، فقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على توظيفها في خطابه الدعوي والتربوي. بيْد أن القصص النبوي يختلف عن غيره من ألوان القصة فهو يمتاح من الواقع بعيدًا عن أخيلة القصصيين وتزييفهم للحقائق، كما أنّ سردها كان تلبية لغايات دينية تربوية وليس للتّسلية وتزجية الوقت. (والقصص النبوي وإن كان يلتقي مع الرواية الحديثة في جانب مهم جدًا وهو التعبير عن القيم إلا أن القصص النبوي يتميز بالتجرد للهدف الديني انطلاقًا من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فالقصص الذى ساقه النبي صلى الله عليه وسلم قصص تربوي ودعوي الهدف منه أخذ العظة والعبرة، والتوجيه والإصلاح، والتعليم) (الخصائص البلاغية للبيان النبوي؛ ص:175).
ولعلّ أبرز ما يُلاحظ في القصص النبوي استعمال أسلوب الحوار الذي يكسر الرتابة ويبعث على التشويق (والحوار أسلوب مهم من أساليب بناء الشخصية في القصة بحيث نستطيع أن نشاهد هذه الشخصية وهي تتحدث في حوار مع الآخرين معبرة عن نفسها وعن أفكارها. وأهمية الحوار تأتى من أن القصة في الأساس عملية سردية تتبع فيها الأحداث بطريقة سردية رتيبة ولكي لا تبدو هذه الرتابة بصورة مملة فإن القصة تلجأ إلى الحوار لإعطاء هذا السّرد نوعاً من الحيوية والإثارة حتى تستطيع القصة أن تشدّ المستمع إليها، وتحمله على المتابعة المستمرة) -من كتاب القصص في الحديث النبوي نقلا عن كتاب الخصائص البلاغية-.
ومن نماذج تلك القصص قوله صلى الله عليه وسلم: (كان في بنى إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً، ثم خرج يسأل، فأتى راهباً، فسأله، فقال: أله توبة؟ قال: لا فقتله، وجعل يسأل، فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وإلى هذه أن تباعدي، فقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له) أخرجه البخاري «باب ما ذكر عن بنى إسرائيل، وأخرجه مسلم؛ كتاب التوبة».
5- الرسوم التوضيحية:
هي وسيلة من الوسائل الفعّالة التي لم يغفل المعلم الأول عن استعمالها في تعامله مع الناس، فما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدع مسلكا للتوضيح والبيان إلا سلكه. وقد عرّف الدكتور أحمد كامل الحصري -نقلا عن كتاب «أثر التفاعل بين قراءة الرسوم التوضيحية والأسلوب المعرفي» للدكتور مندور عبد- الرسوم التوضيحية بأنها (تعبير بالخطوط والأشكال والرموز المبسطة لأفكار أو عمليات أو أحداث أو ظواهر علمية أو قواعد أو قوانين ومبادئ أو علاقات أو تراكيب ومكونات شيء ما في صورة مختصرة تسهل وتيسر إدراك وفهم هذه الأمور بالنسبة للفرد)، وهي كما قال الدكتور مندور (تستخدم في نقل المعلومات للتلاميذ بفاعلية وتشويق، وتقوم بعديد من الوظائف مثل: تقريب الواقع ذاته إليهم، تقدم لهم شكل الأشياء المألوفة، وغير المألوفة، كما تساعد على فهم الأشياء والمفاهيم المجردة). وتوظيف الرسوم ليس حكرًا على مرحلة عمرية دون أخرى، وإن كان استعماله في المراحل الابتدائية أكثر ذيوعًا بسبب خصوصيات هذه الفئة المستهدفة.
ومن نماذج الاستعمالات النبوية لهذه الوسيلة ما رواه ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: خطّ النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخط في الوسط خطاً خارجاً منه، وخط خطوطاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط فقال: «هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به -أو قد أحاط به- وهذا الذى هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا» رواه البخاري؛ كتاب الرقاق؛ باب في الأمل وطوله.
فبيْن أملٍ جاوز المدى وأجل قد خُطت معالمه يبقى الإنسان يتقلب في دنياه عرضة لأعراض الحياة الدنيا حتى يلتحق بربه، هي رحلة الحياة، اختصرها الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الخطوط التوضيحية البسيطة في شكلها العميقة في أبعادها.
6- التكرار:
من أساليب العرب في الحديث قديمًا أسلوب التكرار قال ابن فارس في كتابه «الصاحبي في فقه اللغة»: (ومن سنن العرب التكرير والإعادة إرادة الإبلاغ بحسب العناية بالأمر). وتتعدّد مراميه بحسب طبيعة المخاطب، فقد يُراد به التوكيد والإفهام كما ذكر ابن قتيبة والخطابي في قوله:(إعادة الكلام ثلاثا إمّا لأنّ من الحاضرين من يقصر فهمه عن وعيه فيكرره ليفهم، وإما أن يكون القول فيه بعض الإشكال، فيتظاهر بالبيان). وقد يقصد به (الإبلاغ في التعليم والزجر في الموعظة) كما نُقل عن أبي الزناد في «عمدة القارئ». وهو (أداة فعّالة من أدوات الإيقاظ والتنبيه) خاصة إذا تعلق الأمر بأمر له أهمية عظمى تستدعي حضورًا ذهنيًا ونفسيًا. تقول الدكتورة أميمة بدرالدين في كتابها (التكرار في الحديث النبوي الشريف): (لم يكن التكرار في الحديث النبوي ناجماً عن فقر لغوي، ولا عن عجز في التعبير، وإنّما كان مقصوداً متعمداً، جاء ليحمل جزءاً من المعنى المراد، فكان وسيلة من وسائل الدعوة، وطريقة من طرائقها، يستعمله النبي صلى الله عليه وسلم إذا وجد ضرورة لذلك، فهو في موضعه كالإيجاز في موضعه، والحاجة إليه كالحاجة إلى غيره من الأساليب الأخرى).
وقد ختمت الدكتورة أميمة بحثها القيم بقولها أن أسلوب التكرار في الخطاب النبوي (أسلوب معروف عنده مألوف منه، استعمله لأغراض شتّى، ولغايات متنوعة إلا أنّها كلّها تصب في مشرب واحد هو تعليم الأمّة ونصحها وإرشادها، وإقالة عثرتها وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وقد تنوع التكرار عنده فكان تكراراً باللفظ أو تكراراً بالمعنى، ناهجاً في ذلك نهج العرب، سالكاً سبيلهم… فالتكرار ضرورة ملحة أحياناً يتطلّبها الموقف، ويقتضيها الموضوع، يستوي في ذلك التكرار المعنوي والتكرار اللفظي، بلْ إن التكرار المعنوي في الحديث يكاد يكون أغلب وأوضح خلافاً لما ذكره ابن رشيق في عمدته، وقد حقّق التكرار أغراضاً بلاغية كثيرة كتأكيد المعنى، أو التحذير من عمل، أو الترغيب فيه، أو التلذّذ والاستعذاب للمكرر، أو التنبيه على أهمية المكرر وغير ذلك من المعاني).
وأبرز شاهد على هذا الأسلوب التعليمي ما ورد في صحيح البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان «إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه، فإذا أتى على قوم فسلّم عليهم سلَّم ثلاثًا». ومن النماذج الفعلية لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة» رواه مسلم.
7- الحركات المعبرة:
في عُرْفنا التواصلي تبقى الحركات المعبرة وجها من أوجه التعبير المحمودة متى أريد بها توضيح ما عسُر فهمه، لهذا نلمس حضورا بيّنا لها في الخطاب النبوي، والمراد بها تعبيره صلى الله عليه وسلم عن بعض المواقف بالإشارة باليد أو تعديل الجلسة أو تغيير في تعبير الوجه يعتريه صلى الله عليه وسلم يدل على انشراحه أو غضبه أو رضاه أو سخطه. يقول الدكتور محمد أبو العلا الحمزاوي في كتابه «الخصائص البلاغية للبيان النبوي»: (كان صلى الله عليه وسلم يعتمد على الإشارة المفهمة الموضحة في بعض المواقف لتأكيد أمر ما، ولتثبيت فهمه في أذهان الصحابة. وهذه الإشارة لها مدخل كبير في التعبير لأنها تستلفت النظر، وتنبه الغافل، وتعين على التذكر والحفظ). ومثال ذلك بيانه صلى الله عليه وسلم الجزاء العظيم الذي أعدّه الله تعالى لكافل اليتيم بقوله: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)، وأشار بالسبَّابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًا. أخرجه البخاري.
8- التطبيق العملي:
بعض الأمور الحياتية تحتاج من المعلّم دروسًا تطبيقية موازاة مع الخطاب التنظيري، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على إعطاء دروس عملية من خلال ممارساته الفعلية لما يدعو الناس إليه، إذ السيرة النبوية بأكملها ما هي إلا تطبيق عملي للنهج الإسلامي الذي ارتضاه الله تعالى لعباده. ومن نماذج هذا التمثيل بيانه صلى الله عليه وسلم لكيفية أداء بعض العبادات كالصلاة حيث قال في الحديث الذي أخرجه البخاري: (صلّوا كما رأيتموني أصلّي)، وكيفية أداء مناسك الحج (خذوا عني مناسككم) -أخرجه مسلم-. ولعلّ من أبرز فوائد هذه الوسيلة ترسيخ المعلومة بشكل أفضل، وتقنين طريقة الأداء بعيدًا عن أي تصورات أو تأويلات.
9- الرفع من معنويات المتعلم:
فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يثمّن ما صلح من أعمال الصحابة ويبشرهم بالجنة، ويجبر خاطر من انكسر خاطره، كما حدث مع عبد الله بن مسعود الذي (كان قصيرًا جدًّا طوله نحو ذراع خفيف اللحم، ولما ضحكت الصحابة رضي الله عنهم من دقة رجليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لرِجل عبدالله في الميزان أثقل من أُحُد) (السيرة الحلبية؛ ج1ص397).
10- الصبر والمثابرة في أداء مهنة التعليم:
لأن إدراك الغاية من الرسالة ليس بالأمر الهيّن، وجب على كل حامل دعوة أن يتسلح بالصبر على جفاء المدعوين وغلظتهم وسوء أدبهم حتى يبلغ مراده، لهذا فالرسول صلى الله عليه وسلم مهما بلغت شدة معاناته في التبليغ لم يتسرّب اليأس لقلبه وظلّ متسلّحًا بالصبر حتى أدّى الأمانة التي كلّفه الله بها ( ولازال صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في كل موسم ويقول (لا أُكره أحدا على شيء، من رضي الذي أدعو إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه). (السيرة الحلبية؛ ج2ص7).
11- اختيار النقباء:
من المبادرات التي يمكن للمدرس القيام بها اختيار مسؤولين عن القسم يكونون بمثابة حلقة وصل بينه وبين والمتعلمين، ويكون انتقاؤهم بشكل تشاوري بين التلاميذ، وفي هذا تدريب لهم على تحمل المسؤولية، وإقرار لمبدأ التشاور، وهذا تأسيّا بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية حين طلب من الأنصار اختيار نقباء منهم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -لوفد الأنصار بالعقبة-: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس»، ثم قال لهم: «أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي -يعني المهاجرين-» (السيرة الحلبية؛ ج2 ص23).
يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *