الشباب ومواجهة التحديات المعاصرة ذ. عبد العزيز وصفي

الحديث عن الشباب والتحديات موضوع عريض وواسع الأطراف، تناولته أقلام عديدة من زوايا مختلفة. وفي هذه الورقة نحاول أن نقف مع تحد واضح من التحديات المعاصرة التي تعترض سبيل الشباب المسلم اليوم، باعتبار أن «الشباب هم فئة من البشر لهم تكوينهم البيولوجي والسيكولوجي المختلف عن تكوين الشرائح العمرية الأخرى، ولهم أوضاعهم الاجتماعية ومواقفهم المختلفة عن نظائرها عند الشرائح العمرية الأخرى. الأمر الذي يدفع إلى ظهور مجموعة من القيم أو المعايير التي تتوافق مع احتياجات هذه الشريحة، إضافة إلى قدرتها على توجيه سلوكيات الشباب في مختلف مجالات الواقع الاجتماعي» .
وقد اخترنا قضية من أصعب وأعقد القضايا التي تزعزع كيان الشباب اليوم، وهي قضية “الاستلاب الفكري والضياع العقدي”.
ونأمل أن نوفّق في هذه المحاولة المتواضعة لإثارة بعض الإشارات المهمّة على هذا الصعيد.
1- مدخل: أهمية مرحلة الشباب في عمر الإنسان
تُعد مرحلة الشباب من المراحل العمرية الخصبة التي يمكن أن يزرع الإنسان فيها ما يشاء من خير أو شر؛ وهي جزء من عُمر الإنسان، بل ومن أهم مراحل حياته، ففيها العطاء، والإنتاج، والبناء والتشييد والنجاح.
وقد ثبت من خلال الواقع أن نهضة الدول وتقدمها تقوم على أكتاف الشباب، وقوتهم وحيويتهم.
ومرحلة الشباب من أكثر مراحل عمر الانسان إثارة وتميزا وخطورة؛ نظرا لما يصحبها من التغيرات العاصفة التي تفصل بين مرحلتي الطفولة والشباب، وتحدث تغييرا جذريا كميا ونوعيا في ملامح الشخصية العامة، وتضع الشاب على عتبة واقع جديد كل الجدة، “فبعد فترة طويلة نسبيا من النمو الهادئ غير الملحوظ، والاستقرار الانفعالي يصبح الفرد غير متزن وغير مستقر، ولا يمكن التنبؤ باتجاه تصرفاته غير القابلة للانصياع؛ فهو متمرد على طلبات الأسرة يرفض تحرياتها، غير متأكد من حقيقة ذاته، يتعامل مع الكبار بشيء من الحساسية وقدر واضح من العناد” .
والشباب هم فئة الإبداع والتجديد والتطوير، في حين يميل الشيوخ عادة إلى الرتابة، وعدم التجديد، والإبقاء على القديم.
ولهذا يتقبَّل الشباب في العادة الأفكار الجديدة، وربما الغريبة أيضاً، ويستهويهم التغيير، وأفكار التطوير.
ومن هنا يُلاحظ أن الشباب أكثر فئات المجتمع تقبلاً للاستهواء والانقياد للجديد، والتقليد للآخرين.
وهذا ما نلاحظه في كثير من الشباب من الانقياد للتقليعات الجديدة، والملابس الغريبة، وقصات الشعر الشاذة والمتمردة.
وفي الوقت نفسه يعتبر الشباب أكثر الفئات قبولاً للخير، واستجابة للحق، وحماساً للدعوة والعمل الصالح.
2- الشباب وتحديات العولمة والاستلاب الفكري والعقدي
يعاني الشاب غالباً في مرحلة المراهقة والشباب من الفراغ الفكري والروحي وضعف الانتماء وانسداد الأفق.
ففي هذه المرحلة يتفتح عقل الإنسان، وتنفجر مواهبه ويبدأ بالتفكير الدقيق، فترتسم أمام ذهنه كثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام عن الحياة والمجتمع لابد له من تحصيل الأجوبة الصريحة والمقنعة عنها.
وهو لا يرى نفسه ملزماً بتقبل أفكار أهله وبيئته مادام يستشعر الثقة بنفسه ويحب ممارسة دور الرفض والمعارضة ويميل إلى تحمل الأخطار والمغامرات.
وبذلك نجد أن الشاب يكون مستعدا لاعتناق أي فكرة جديدة مغرية مهما كانت خطيرة ومرهقة.
أما الكبير فله قناعات وأفكار يعيش الإيمان بها ويقدسها سنوات طويلة.. فهو لا يعاني فراغاً فكرياً ولا يشعر بالحاجة إلى عقيدة جديدة.. بل هو غير مستعد للتنازل عن فكرة طالما آمن بها وقدسها سنيناً طويلة.
ولذلك نجد أن أمل الرسالات والمبادئ إنما تقوم على أكتاف الشباب؛ فهم الذين يسارعون إلى الإيمان بالأفكار الجديدة ويستعدون للتضحية في سبيلها.
فنبي الله إبراهيم عليه السلام مثلاً حينما طرح دعوته التوحيدية في المجتمع، من الذي استجاب له وتجاوب معه؟
إن قومه يعيرونه بأتباعه والذين هم مجموعة من الشباب الفقراء كما يحكي عنهم ذلك القرآن الحكيم حيث يقول تعالى: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾2.
ونبينا محمد صلى الله عليه وآله إنما سارع إلى الإيمان برسالته جماعة من الشباب الصغار كعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وبلال الحبشي وعمار بن ياسر وأمثالهم . وقس على ذلك كثير من الأمثلة في مختلف العصور والأزمنة.

وفي عصرنا الحاضر همّ أعداء الإسلام الذين غرسوا العقيدة الانهزامية في قلوب الجيل الناشئ، وعملوا على تزيين الشر في نفوسهم، حيث سخروا كل وسائل الإعلام المسموعة والمرئية من صحف وقنوات فضائية لعرض كل الأفكار التي تبعد المسلم عن عقيدته وأخلاقه؛ فهم أينما نظروا وجدوا أمام أعينهم نماذج وقدوات فاسدة من المنحرفين والمغنيين والممثلين، الذين يقودون حملةً هوجاء لإغراء الشباب وتغريب فكرهم وتدمير عقيدتهم الإسلامية.
فها نحن نرى الشباب وقد قلدوا في مناظرهم ومظاهرهم طبقة المغنيين، فنسوا أخلاق المسلمين من الشهامة والمرؤة والرجولة والغيرة على الأعراض باسم التقدم والتحرر، وأما الفتيات فعن أحوالهن حدّث ولا حرج… فهذه الملابس الجذابة بالألوان الصارخة التي تثير شهوات الشباب وتظهر من الجسم أكثر مما تستر منه؛ إن هؤلاء جميعاً ينطبق عليهم قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) .
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أناسا من أمته سيتَّبعون أعداء الله تعالى في بعض شعائرهم وعاداتهم وأفكارهم وعقائدهم، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ: فَمَنْ؟) .
3- وقفة مقتضبة مع شباب جيل الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-
الحديث عن شباب جيل الصحابة موضوع ذو شجون، لا تسعه الورقات القليلة، لكن ما لا يدرك كله لا يترك جُله، ومن هنا نقدّم بعض الأمثلة المشرقة لشباب الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- وهي تمثل نماذج سامية؛ حتى نعطي صورة حقيقية عن القدوة المثالية لشباب اليوم في أبهى صورها المشرقة.

وبداية أقول:
إن الإسلام -كما هو معروف- عملة لها وجهان اثنان، أولهما الإيمان، والثاني العمل الصالح. وقد وفق شباب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى الامتثال الجيد والمتزن على كلا الوجهين، حتى إنه قيل عنهم بأنهم كانوا قرآنا يمشي على الأرض، وأنهم كانوا رهبانا بالليل، فرسانا بالنهار.
ومما لا شك فيه أم هذا التطابق الرائع بين الإيمان والعمل أي بين المبدأ والسلوك هو الذي جعل من أولئك الصحابة الشباب رضوان الله عليهم بناة حضارة إسلامية مثالية، استطاعت بفضل خصائصها الربانية أن تقهر بسرعة ملحوظة سائر التحديات التي واجهتها بها الحضارات المعاصرة لها؛ تلك التي كانت تزهو بقوتها المادية.
يقول الداعية الإسلامي أبو الأعلى المودودي -رحمه الله-: “ومن النماذج الرائعة في السمو الخلقي الذي عرضته الجنود الإسلامية على الدنيا أنها كانت تدخل مدينة تفتحها، وتجوب في شوارعها، ونساء هذه المدينة واقفات في شرفات في أبهر ثياب التبرج والإغراء تطلعن إلى الموكب، ولم يحاول جندي من هؤلاء الجنود البواسل أن يرفع رأسه ينظر إليهن ولو بنظرة عابرة… الأمر الذي كان يختلف تماما عما جربته تلك الأمم المغلوبة من ويلات الغزاة فيما خلت من القرون” .
وهكذا نرى المسلمين الأوائل انتصروا بقوة السلاح وكثرة العدد، فهم قد كانوا من المبتدأ قلة وضعافا، ولكنهم انتصروا بقوة الإيمان، وعظمة الأخلاق، ونبل المقاصد.
ومن المعلوم أن هذه الصورة الرائعة المتفردة للشباب المسلم قد منيت بغير من الغبش والتشويه منذ انصرام تلك الفترة البعيدة المجيدة؛ فترة النبوة والخلافة الراشدة إلى يوم الناس هذا.
والكلام في هذا الباب يطول كثيرا، والذي يرجع إلى المصادر الإسلامية يجدها توثق لهذا الأمر بجلاء.
ومن الأدلة على ما نقول: أن المتصفح للسيرة النبوية الشريفة، يلحظ مقدار العناية النبوية الواضحة بجيل الشباب، وكيف أنه صلى الله عليه وآله أعطاهم المكانة اللائقة بهم، ونشير إلى لمحة خاطفة من ذلك توضح فعلا أن الشباب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا طاقة جبارة، استفاد منها صلى الله عليه وسلم وأحسن توظيفها فعلا لا قولا، أصبحوا هم دعامة المجتمع والأمة وبناؤها، في بلادنا اليوم يمر سن الشباب وهم مغبونون، ضائعون، يتلمسون الطريق فلا يجدونه، الأكبر سنا يعتبرونهم ناقصي خبرة وربما عقل أيضا! يقولون بأن الشباب عماد الأمة وبناة المستقبل، لكنهم لا ينصفون لا قولا ولا فعلا.
أمن الرسول بالشباب وقدراتهم، فتح لهم صدره، احترم عقلهم وإرادتهم، عرض دعوته على الكثير من قبائل العرب في موسم الهجرة ولم يتوصل معهم لاتفاق، أما مع الشباب فقد كان الأمر مختلفا، فهموا النبي بينما لم يفهمه الناس، وصدقوه حينما كذبه الناس، دعموه بينما تخلى عنه الناس، الشباب إذن لهم عقليات مختلفة، ربما أكثر تفتحا منا نحن الكبار ذوي الخبرة والعقل، أو هكذا ندعى! لديهم قلوب غير قلوبنا، وسواعد ليست مثلنا، أمنوا به عندما قابلوه، صدقوه في رسالته، اغتنموا الفرصة فلم يضيعوها، نالهم الشرف في الدنيا، ورضا الله والجنة. فكانوا أصحاب النبي في زمنه، وبناة الحضارة الإسلامية من بعده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *