عنوان السلسلة حـوارات فكرية قناديل لإنارة الطريق.. د. البشير عصام

المقدمة الشعارية للسلسلة
الذل والضعف وفساد العمل.. كل ذلك راجع إلى خلل الأفكار.
وطريق إصلاحها في الحوار..
وهو طريق طويل تحيط به ظلمات، تحتاج إلى قناديل تزيل غبشها، وتقود إلى الضياء الماثل في آخر النفق.


الحلقة 1:

قبل المسير..

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
نظرتُ إلى التاريخ المديد للإنسانية، وتأملت في واقع صعود الحضارات وهبوطها، فجزمت بالتلازم المنهجي بين العلم والعمل، أو بين الحركة والفكر.
نعم: ما رأيت تشوها في العمل، إلا رأيت وراءه خللا في العلم.
ولا رأيت صراعا ماديا عمليا، إلا رأيته مبنيا على نزاع حول المفاهيم والتصورات.
وتأملت حال الأمة الإسلامية بخصوصها، فوجدتها لا تخرج عن هذا المعنى، وذلك منذ قرون مديدة.
وإذا كانت أمتنا اليوم تعاني من الذلة والعجز عن امتلاك قرارها السياسي، ومن الضعف الاقتصادي، ومن التناحر والصراعات، فإن فساد المفاهيم هو أساس ذلك كله، وإن تسمم الأفكار هو مكمن الداء دون تردد.
وإذا كان الغرب قد احتل ديارنا عسكريا، وألحقنا به اقتصاديا، فإن الغرب أيضا قد لاحقنا في أفكارنا إلى قعر بيوتنا ومدارسنا، فصار الكثير منا حاملا لفكره، وناطقا بلسانه.
نعم، فسدت كثير من مفاهيمنا.. وهنالك مفاهيم أخرى كثيرة في طريقها إلى مزيد من الفساد والخلل.
وصار السؤال الملح: كيف لنا أن نمارس إسلامنا دون خضوع للثقافة الغربية المهيمنة؟ وبالمقابل، كيف لنا أن نأخذ من الغرب ما وصل إليه من حق وخير، دون أن نقع في تحريف ديننا أو إخضاع حضارتنا لثقافته الخفية والمعلنة؟

***

نحتاج حقا إلى وقفة بل وقفات نتدبر فيها ما وصلنا إليه.. علينا أن نراجع أفكارنا ونسلط عليها شيئا من النقد والتحرير العلمي.
وأفضل محضن لمراجعة الأفكار: الحوار المنبني على أسس العلم، وقواعد الفكر، وأصول المنهج.
حوار ليس فيه سب ولا شتم، فإن ذلك سلاح الضعيف العاجز.
حوار مقصوده إدراك الحق في ذاته، وليس الرد على فلان أو علان، فطالما أتعبتنا ثقافة الردود والتعلق بالأشخاص، وأهلكنا ما يتخللها من انتصار للنفس واعتزاز بالإثم.
ليست مناظرة تهدف لإذلال الخصم، ونزع مصداقيته؛ ولكنه حوار غايته إعلاء المحاوِر بالحق بعد أن كان ضائعا في ذلة الباطل..
هذا الحوار الفكري، أتصورُه كالطريق الطويل الذي يحفه كثير من الظلام، ويحتاج منا إلى مصابيح للإضاءة.
ولست أدّعي أنني أمتلك الضوء الكامل، ومن ذا الذي يمكنه أن يزعم شيئا كهذا..
ولكن حسبي قناديل اقتبستها من مشكاة الوحي، أضاءت لي شيئا من الطريق، وأرجو أن يأتي من يزيدها وهجًا وتألقا..

***

هذا الطريق الطويل الموحش يحتاج إلى زادٍ يمكّننا من بلوغ غايتنا. وهو زاد من القواعد والأصول، التي لا يثمر الحوار شيئا ذا بال إن لم يسلّم بها المتحاورون.
بعض هذه القواعد شرعي (مثل: ضرورة التسليم لنصوص الوحي)، وبعضها عقلي (مثل وجوب الاعتداد بالبرهان والدليل)، وبعضها منهجي (مثل قيمة احترام التخصص، والتحذير من الجرأة على مقامات العلم)، وبعضها إيماني تربوي (مثل معرفة السبيل إلى قطع مسالك الهوى في النفس البشرية).
وبعد حمل الزاد، لا بد من التعرف إلى الطريق نفسها، أين تمر وما الذي يحيط بها؟
فهي فرصة إذن للتعريف المختصر بالمفاهيم الفلسفية الكبرى، التي فرضت نفسها على الفكر الإنساني خلال القرون الأخيرة، ولم يعد من الممكن التغافل عن تأثيرها المباشر على المخاض الفكري والعقدي والفقهي، في أمتنا خلال العقود الأخيرة، وخاصة في مرحلة ما بعد الربيع العربي.
ستكون فرصة للحديث المختصر الملتصِق بالسياق التاريخي، عن العلمانية والديمقراطية والحرية والعقلانية والحداثة ومركزية الإنسان والمادية والنسبية، وأمور أخرى نعيش آثار النقاش حولها كل يوم!
ثم ونحن سائرون على الطريق، لا بد من أن نتمثل أننا كالسائر في نفق طويل مظلم، لا يحفزه على المسير، ويشجعه على تحمّل مشاقّه، إلا الضوء المشع في آخر النفق، وهو في حالتنا: “الصراط المستقيم”، المتضمن للنظرة الإسلامية الشاملة، وأصول “المشروع” الإسلامي المتكامل، كما جاءت به نصوص الوحي.
وفي الطريق ظلمات كثيرة، تؤخر عن الوصول إلى المقصود، هي أصول الانحراف المفاهيمي الذي نعاني من آثاره الوخيمة..
وفي الطريق أيضا أقترح قناديل لدفع هذه الظلمات، وإنارة السبيل نحو الصراط المستقيم، وذلك في مجالات فكرية مختلفة:
• في الموقف السليم من التراث بين التقديس والإهدار؛
• وفي قضية فهم النص، والإشكالات المثارة حولها، ومناقشة دعوات تجديد أصول الفقه، وفهم السلف والإجماع، وموقع المقاصد من الاستنباط الفقهي؛
• وفي الموقف من السنة النبوية، وضبط آليات القبول والرد، وما يثار حولها من إشكالات اليوم؛
• وفي ضوابط التعامل مع الخلاف العقدي والفقهي؛
• وفي مفهوم الحرية وحدودها ومجالاتها؛
• وفي قراءة التاريخ الإسلامي، منذ زمن الصحابة رضوان الله عليهم، بعيدا عن التضخيم الوعظي، أو التفسيرات السياسية العصرية؛
• وفي النظام السياسي الإسلامي، والإشكالات المثارة حول بعض أصول تحكيم الشريعة، وقضايا المواطنة ونحوها؛
• وفي النظام الاجتماعي الإسلامي، وقضايا المرأة والأسرة.
هي قضايا كثيرة، ولكن لن تثنينا كثرتُها ولا تشعبها، عن ملامستها بقدر ما تسمح به الهمة، بعد إذن رب العزة جل جلاله؛ لأنها قضايا مصيرية، آن لنا أن نفتح فيها حوارا علميا رصينا، بعيدا عن تجاذبات السياسة، ومهاترات الجدل الاجتماعي غير المنضبط.
والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *