الغيب نوعان: غيب مطلق، وغيب نسبي.
فالغيب المطلق: هو ما غيبه الله عن جميع خلقه، فلم يطلع عليه أحدا منهم؛ بل استأثر الله تعالى بعلمه.
قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) لقمان/34.
وروى البخاري في صحيحه (992) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مِفْتَاحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ، لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْحَامِ، وَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ).
وأما الغيب النسبي: فهو ما غاب عن بعض الخلق علمه، وعلمه بعضهم، فهذا إنما يسمى غيبا بالنسبة للجاهل به الذي لا يعلمه، وليس بغيب للذي يعلمه.
فما أخفيته في بيتي –مثلا- هو معلوم بالنسبة لي، لكنه غيب بالنسبة لغيري، ممن لم يعلم به.
وما يحدث في مكان آخر، لم أطلع أنا عليه، هو غيب بالنسبة لي، لكنه ليس غيبا بالنسبة لمن كان حاضرا في ذلك المكان.
وهذا الغيب النسبي يمكن للإنسان أن يعرفه إما بطريق الوحي، أو بالتجربة، أو بالعلم الحديث، أو غير ذلك مما يمكن به الاستعلام عما يخفى على كثير من الناس بالطرق الممكنة، كمعرفة ما في قعر البحار، وأغوار الأرض، وأجواء السماء.
وقال الشيخ محمد الددو الشنقيطي:” الله يكشف لبعض عباده بعض المغيبات، فلا تكون غيباً بالنسبة إليهم وإنما تكون من عالم الشهادة، كما حصل لـعمر مع سارية. وهذا النوع من الغيب يمثل له بالجزار قبل أن يفتح بطن الشاة، فما في بطنها غيب بالنسبة إليه، لكنه إذا فتحه واطلع عليه زال ذلك، فلم يكن غيباً بالنسبة إليه.ومثل الغائب عنك، فإن من في بيتك الآن يرى ما لا تراه، فما في بيتك غيب بالنسبة إليك، وشهادة بالنسبة للحاضر عندهم.
فالغيب غيبان: غيب عن كل الناس، وهذا لا يطلع عليه أحد، مثل ما يقع في غد، ومنه مفاتيح الغيب الخمسة.
وغيب عن بعض الناس، شهادة لبعضهم، مثل: ما يراه الطبيب بالتشخيص، فهذا بالنسبة لك أنت غيب، وأنت واقف بجنبه، لكنه ليس غيباً بالنسبة إليه؛ لأنه يراه بالمرصد والمنظار ونحو ذلك ” انتهى. “دروس للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي”.
ويمكن معرفة الغيب النسبي إما بطرق مشروعة مباحة، وإما بطرق غير مشروعة وغير مباحة.
– فمن الطرق المشروعة: ما يعرفه أنبياء الله ورسله صلى الله عليهم وسلم عن طريق الوحي، قال تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) هود/49.
وقال تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) آل عمران/44.
– ومن الطرق المشروعة: ما يعرفه أهل الصلاح عن طريق التحديث والإلهام الصحيح، كما حصل لعمر رضي الله عنه وهو محدَّث هذه الأمة، فروى البيهقي في “دلائل النبوة” (6/ 370) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُدْعَى سَارِيَةَ فَبَيْنَمَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَخْطُبُ فَجَعَلَ يَصِيحُ: يَا سَارِيَ، الْجَبَلَ. فَقَدِمَ رَسُولٌ مِنَ الْجَيْشِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقِينَا عَدُوَّنَا فَهَزَمُونَا، فَإِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ: يَا سَارِيَ، الْجَبَلَ، فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا إِلَى الْجَبَلِ فَهَزَمَهُمُ اللهُ، فَقُلْنَا لِعُمَرَ: كُنْتَ تَصِيحُ بِذَلِكَ. حسنه الألباني في “الصحيحة” (1110).
– ومن الطرق المباحة: ما يعرفه أهل الطب عن طريق الأشِعات والأجهزة الحديثة، فيطلعون في داخل الجسم، ويرون ويعرفون ما لا يراه ولا يعرفه غيرهم من غير أهل الاختصاص، كمعرفتهم حال الجنين في بطن أمه، وهل هو ذكر أو أنثى، وكاطلاعهم على الأورام الداخلية والخلايا الدقيقة ونحو ذلك.
ومن الطرق غير المشروعة:
– معرفة المغيبات بالتجسس والتصنت المحرم.
ومنها: معرفة أماكن الأشياء المفقودة عن طريق الاستعانة بالجن.
وحكم من ادعى الغيب النسبي يختلف باختلاف أداة العلم التي توصل بها إلى هذه المعرفة؛ فما كان منها مشروعا أو مباحا: فمعرفته صحيحة، كمعرفة أخبار الأمم السابقة بنصوص الكتاب المجيد، وكمعرفة حال الجنين، ومعرفة الأمراض والآفات التي تصيب دم الإنسان، ومعرفة حال الطقس، ونحو ذلك، مما يتمكن المرء من معرفته بالطرق المعروفة المشروعة.
وما كان منها محرما: فحكم معرفته أنها محرمة، كمن يتعرف على المفقودات ويعلم أماكنها بالاستعانة بالجن، أو نحو ذلك.
ومن ذلك أيضا: ادعاء بعض جهلة الصوفية معرفة الغيب والاطلاع عليه وما سيكون بدعوى وصولهم إلى العلوم اللدنية التي يختص بها الله من شاء من عباده، فهذا ونحوه ليس من معرفة الغيب في شيء، وإنما هو دجل وكذب وشعوذة.