رمضــان والقـــرآن طارق برغاني

اقترن شهر رمضان بالقرآن الكريم، وجعل منه هذا الاقتران والتواؤم ميزة اختص بها عن باقي شهور السنة، وبما أن شهر رمضان هو فرصة للاجتهاد في مختلف الطاعات، لمضاعفة الأجر والثواب، فإن اغتنام أوقاته في قراءة القرآن تلاوة وحفظا وتدارسا وقياما، من بين وأكثر الطاعات انسجاما مع عبادة الصوم، لأن الصوم مفتاح للقلب وتهيئة للنفس وتزكية للروح، وتمهيد لإقبال العبد على ربه.
وتلاوة القرآن بعد انفتاح هذه الأبواب يكون أنفع وقعا على النفس وأكبر خشوعا للقلب وأعظم تدبرا في الوجدان، والمتأمل في هذه العلاقة الخاصة بين هذا الشهر الفضيل وكتاب الله تعالى، يستخلصها من مجموعة من الأدلة والنصوص:

شهر التنزيل
نزل القرآن الكريم في شهر رمضان، يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} البقرة: 185، فجعل الله عز وجل هذا الشهر مهبطا زمنيا للوحي الرباني، سواء كان إنزالا على وجه الجملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة.
عنِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّهُ سألَهُ عطيَّةُ بنُ الأسوَدِ، فقال: «وقعَ في قَلبي الشَّكُّ: قولُ اللَّهِ تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقولُهُ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ وقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وقَد أُنزِلَ في شوَّالَ، وفي ذي القِعدَةِ، وفي ذي الحِجَّةِ، وفي المُحرَّمِ، وصفَرَ، وشهرِ رَبيعٍ؟ فقالَ ابنُ عبَّاسٍ: إنه أُنْزِلَ في رمضانَ في ليلةِ القدرِ وفي ليلةٍ مبارَكَةٍ جملةً واحدةً، ثمَّ أُنْزِلَ على مواقعِ النُّجومِ تَرتيلًا في الشُّهورِ والأيَّامِ» أحمد شاكر، عمدة التفسير:1/220.
أو إنزالا على وجه التنجيم ابتداء بآيات سورة العلق، «..وروى الواقدي بسنده عن أبي جعفر الباقر أنه قال: كان ابتداء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وقيل في الرابع والعشرين منه..» البداية والنهاية الجزء الثالث.
وميزة التنزيل للوحي الإلهي في شهر رمضان لم تختص بالقرآن حده فحسب، بل شملت جميع الكتب السماوية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُنزِلَت صحُفُ إبراهيمَ أولَ ليلةٍ من رمضانَ، وأُنزلَت التوراةُ لستٍّ مَضَين من رمضانَ، وأُنزِلَ الإنجيلُ لثلاثِ عشرةَ ليلةً خلَتْ من رمضانَ، وأُنزلَ الزَّبورُ لثمانِ عشرةَ خلَتْ من رمضانَ، وأُنزِلَ القرآنُ لأربعٍ وعشرين خلَتْ من رمضانَ» السلسلة الصحيحة: 1575.

ليلة القدر:
أبهى الليالي وأخيرها على طول السنة، ليلة نورانية، مباركة، ربانية، فيها أنزل القرآن، يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} الدخان:3-4، وسعت كل الفضائل والخيرات، ليلة القرآن والقيام والسلام ونزول الملائكة إلى السماء الدنيا احتفاء بعباد الله الصائمين القائمين، يقول الله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ} القدر.

التلاوة والحفظ:
ترشدنا السنة النبوية إلى فضل الاجتهاد في رمضان تلاوة وحفظا واستظهارا لكتاب الله عز وجل، وكأن هذا الشهر فرصة لتحصيل وترسيخ ما تم حفظه خلال باقي أيام السنة، كما يعد مناسبة لبداية مسلك للتلاوة والختم والحفظ والالتزام به خلال سائر أيام السنة، فقد، «كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجودَ الناسِ بالخيرِ وكان أجودَ ما يكون في رمضانَ، حين يلقاه جبريلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان جبريلُ يلقاه في كل ِّليلةٍ من رمضانَ؛ يَعرِضُ عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ القرآنَ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجودَ بالخيرِ من الرّيحِ المرسَلَةِ» صحيح الأدب المفرد: 224، «.. في ذلك حكمتان: إحداهما تعاهده، والأخرى تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضا وأحكاما..» فتح الباري:1/621.

القيـام:
سمة أخرى من سمات هذا الشهر الفضيل، يجتمع فيها القرآن الكريم بالصلاة في المساجد بعد صلاة العشاء وقبل فريضة الصبح في صلاة التراويح، التي يُقبل عليها المسلمون لإتمام ختم القرآن استماعا وتتبعا من المصاحف خلف الإمام، وزيادة عليها في البيوت تنفلا بمن منَّ الله عليه بمزيد اجتهاد.
عن عائشة رضى الله عنها «أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خرَج في جوفِ اللَّيلِ فصلَّى في المسجدِ فصلَّى النَّاسُ فأصبَح النَّاسُ يتحدَّثونَ بذلك فكثُر النَّاسُ فخرَج عليهم اللَّيلةَ الثَّانيةَ فصلَّى فصلَّوا بصلاتِه فأصبَحوا يتحدَّثونَ بذلك حتَّى كثُر النَّاسُ فخرَج مِن اللَّيلةِ الثَّالثةِ فصلَّى فصلَّوا بصلاتِه فأصبَح النَّاسُ يتحدَّثونَ بذلك فكثُر النَّاسُ حتَّى عجَز المسجدُ عن أهلِه فلم يخرُجْ إليهم فطفِق النَّاسُ يقولونَ: الصَّلاةَ. فلم يخرُجْ إليهم حتَّى خرَج لصلاةِ الفجرِ فلمَّا قضى صلاةَ الفجرِ أقبَل على النَّاسِ فتشهَّد ثمَّ قال: «أمَّا بعدُ فإنَّه لم يخْفَ علَيَّ شأنُكم اللَّيلةَ ولكنِّي خشيتُ أنْ تُفرَضَ عليكم صلاةُ اللَّيلِ فتعجِزوا عن ذلك».
وكان يُرغِّبُهم في قيامِ رمضانَ مِن غيرِ أنْ يأمُرَهم بعزيمةٍ يقولُ: «مَن قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غفَر اللهُ له ما تقدَّم مِن ذنبِه»، قال: فتوفِّي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والأمرُ على ذلك، ثمَّ كذلك كان في خلافةِ أبي بكرٍ وصدرٍ مِن خلافةِ عمرَ حتَّى جمَعهم عمرُ بنُ الخطَّابِ على أُبَيِّ بنِ كعبٍ فقام بهم في رمضانَ وكان ذلك أوَّلَ اجتماعِ النَّاسِ على قارئٍ واحدٍ في رمضانَ» صحيح ابن حبان: 2543.

شفيعان يوم القيامة:
أعظم مظاهر اقتران القرآن الكريم بالصيام، تتجلى في شفاعتهما للعبد يوم القيامة، فيكون شهر رمضان بذلك قد اشتمل على الخيرين معا، صياما وقرآنا، ففيهما الشفاء الروحي والبدني في الدنيا، ففي الحديث القدسي: «قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: كلُّ عَملِ ابنِ آدمَ لَهُ إلَّا الصِّيامَ هولي وأَنا أجزي بِهِ، الصِّيامُ جُنَّةٌ، فإذا كانَ يومُ صومِ أحدِكُم فلا يرفُثْ، ولا يصخَبْ، فإن شاتمَهُ أحدٌ أو قاتلَهُ، فليقل: إنِّي امرؤٌ صائمٌ. والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِهِ، لخلوفُ فمِ الصَّائمِ أطيَبُ عندَ اللَّهِ من ريحِ المسكِ» صحيح النسائي: 2216. ويقول الله عز وجل: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُو شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا» الإسراء: 82، وهما سبيلان للنجاة في الآخرة، يترافعان عن العبد أمام ربه ويشهدان بما احتمله العبد بسببهما من إمساك عن الطعام والشهوة، وامتناع عن النوم والراحة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الصِّيامُ والقرآنُ يَشْفَعَانِ للعبدِ يومَ القيامةِ، يقولُ: الصِّيامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ والشهوةَ، فشفعْني فيهِ، ويقولُ القرآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِالليلِ، فَشَفِّعْنِي فيهِ، قال: فيشفعانِ» صحيح الترغيب:984 (حسن صحيح).
اللهم أعنَّا على صيام رمضان وقيامه وأثبنا عليه خير الثواب.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *