ذكرتُ في الحلقة الماضية أن جميع فرق الخوارج تقول بالتكفير بالمعاصي مع اختلاف في بعض التفاصيل..
ومن أكثر المعاصي التي كفروا بها؛ معصية الحكم بغير ما أنزل الله:
قال الإمام الآجري (ت. 360 هـ) رحمه الله في كتابه؛ الشريعة (ص.31-32):
“ومما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله عز وجل: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، ويقرؤون معها: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ}؛ فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق؛ قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه، فقد أشرك، فهؤلاء الأئمة مشركون، فيخرجون فيفعلون ما رأيت، لأنهم يتأولون هذه الآية”اهـ.
وقال الإمام أبو حيان الأندلسي (ت. 754 هـ) في تفسيره: “واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن كل من عصا الله فهو كافر، وقالوا هي نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر”اهـ( ).
وقال العلامة الألباني (ت. 1420 هـ): “أصل فتنة التكفير آية يدندنون دائما حولها ألا وهي قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة:44] فيأخذونها من غير فهوم عميقة ويوردونها بلا معرفة دقيقة”اهـ.
وأما السلف؛ فيفصلون ويقولون: هذا العمل كبيرة وموبقة، وصاحبها متوعد بوعيد شديد، فإن اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، وأنه حلال وليس بمعصية؛ فهنا يكفر لأنه استحل الحرام، والحكم عليه بالكفر يصح بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع، كالجهل.
وإذا كان يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وحَكَم بغيره، فهذا منه كفر دون كفر، ولا يجوز الحكم عليه بالخروج من الملة.
هذا ما دلت عليه النصوص مجتمعة، وهو ما فهمه السلف الصالح من آيات الحكم.
قال الألباني: “وسر هذا؛ أن الكفر قسمان: اعتقادي وعملي؛ فالاعتقادي مقره القلب، والعملي محله الجوارح؛ فمن كان عمله كفرا لمخالفته للشرع، وكان مطابقا لما وقر في قلبه من الكفر به، فهو الكفر الاعتقادي، وهو الكفر الذي لا يغفره الله، ويخلد صاحبه في النار أبدا.
وأما إذا كان مخالفا لما وقر في قلبه، فهو مؤمن بحكم ربه، ولكنه يخالفه بعمله، فكفره كفر عملي فقط، وليس كفرا اعتقاديا، فهو تحت مشيئة الله تعالى؛ إن شاء عذبه، و إن شاء غفر له، وعلى هذا النوع من الكفر تحمل الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئا من المعاصي من المسلمين؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: “اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في الأنساب والنياحة على الميت”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر” رواهما مسلم.
فمن قام من المسلمين بشيء من هذه المعاصي، فكفره كفر عملي، أي إنه يعمل عمل الكفار، إلا أن يستحلها، ولا يرى كونها معصية..
والحكم بغير ما أنزل الله، لا يخرج عن هذه القاعدة أبدا”.
وهذا البيان هو فقه السلف في هذه المسألة، ولذلك قالوا في تفسير الآية: “كفر دون كفر”؛ صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم تلقاه عنه التابعون، وهو قول عامة الأئمة والمفسرين.
1 – روى ابن جرير الطبري (10 / 355 / 12053) بإسناد صحيح عن ابن عباس: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال: “هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله”.
2 – وفي رواية عنه في هذه الآية: “إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة؛ كفر دون كفر”. أخرجه الحاكم (2/313) وقال: “صحيح الإسناد” ووافقه الذهبي.
3 – و في أخرى عنه قال: “من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق”. أخرجه ابن جرير (12063).
4 – ثم روى (12047 – 12051) عن عطاء بن أبي رباح قوله: (وذكر الآيات الثلاث): “كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم”. وإسناده صحيح.
قلت: وهو قول شيخ المفسرين الطبري حيث قال في تفسيره (10/358): “إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم -على سبيل ما تركوه- كافرون، وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير آية الحكم في “مجموع الفتاوي” (3/268): “أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله”.
ثم ذكر (7/254) أن الإمام أحمد سئل عن الكفر المذكور فيها؟ فقال: “كفر لا ينقل عن الإيمان، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه”.
وقال (7/312): “وإذا كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر، وليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، قالوا: كفرا لا ينقل عن الملة، وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة”اهـ.
وبهذا يظهر الفرق بين فهم السلف للآية وفهم غيرهم لها، وأن هؤلاء محجوجون بذلك الفهم، وأنه لا متمسك لهم بها فيما هم عليه من بدعة نسبوها زورا وبهتانا إلى السلفية والجهاد، واستحلوا بها دماء الحكام وولاتهم من رجال الأمن وغيرهم.
والشيء ذاته يقال في سائر النصوص التي أقاموا عليها بدعتهم، وأسسوا عليها ضلالتهم.
شبهة وجوابها
يشوش بعضهم على هذا التقرير العلمي بقوله: (لفظة الكفر في آية الحكم مُعرّفة، وأما في الأحاديث التي تحتجون بها فهي نكرة، وهذا يدل على أن الكفر في الآية هو الكفر الأكبر وفي باقي النصوص يحمل على الكفر الأصغر)، وقد يستدلون بقول شيخ الإسلام: “الكفر المعرف ينصرف إلى الكفر المعروف، وهو المخرج من الملة”( ).
ويرد على هذا من وجوه:
الأول: الحجة في الدليل لا في كلام العلماء.
الثاني: كلام شيخ الإسلام إنما هو عن المصدر لا عن اسم الفاعل، وفرق بينهما؛ إذ المصدر يدل على الفعل وحده، أما اسم الفاعل فهو دال على الفعل وعلى من قام به( ) .
الثالث: قد تقدم قول ابن تيمية الصريح في آية الحكم.
الرابع: ما ثبت عن ابن عباس وغيره من تفسير الكفر في الآية بنوعيه.
الخامس: ما ثبت من الآثار في وصف بعض الذنوب بالكفر معرفا والمراد به الكفر الأصغر اتفاقا؛ “كالحديث الذي رواه البخاري (5273) عن ابن عباس؛ وفيه قول امرأة ثابت ابن قيس: “ولكني أكره الكفر في الإسلام”.
وأخرج النسائي في الكبرى (118) وعبد الرزاق في مصنفه (20953) عن ابن عباس أنه قال في إتيان المرأة من دبرها: “ذلك الكفر”، وإسناده قوي كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (3/181).
.. وبعد هذا لا بد أن أوضح أن الخوارج أبعد ما يكون عن فقه المفهوم الشرعي الكامل لمعنى الحكم بما أنزل الله؛ ويكفي أن أجدادهم اعتقدوا أن عليا والصحابة لم يحكموا بما أنزل الله!!
فكيف يستطيعون أن يدركوا متى يصح وصف المعين بأنه يحكم بما أنزل الله أو لا؟ وما هي مجالات الحكم بما أنزل الله؟ وما هو القائم منها والغائب؟ وما هو حكم المتأول والمكره؟ .. إلـخ.