الناسُ أشبهُ بالزمانِ الحالي
ليسوا من الجيلِ العتيقِ وصنعةٍ الشابُ ابنٌ للحياةِ ونبضُها لا تَحمِلنَّ كفاحَهُ بجسارةٍ افتَحْ له دربَ الضياءِ وهاتِهِ حاوِرْهُ بالكَلِمِ الجميلِ ولا تكنُ الديناصور يُريدهُم أمثالَهُ كلاَّ لعمري فالحياةُ تغيرٌ عقليةُ الجملِ القديمِ وسيفِهِ فافقَهْ مقالةَ سيدٍ متنوّرٍ |
ليسوا من الآباء والأخوالِ!
مهجورةِ الألوانِ والآمالِ فترفّقنْ بغُصنِه الميّالِ أو تنظُرنَّ إليهِ باستقلالِ! لمنازلِ الأفذاذ والأبطالِ كالآمرِ المتجهِّمِ الصيّالِ في منطقٍ وهوايةٍ ونضالِ ولكلِّ دهرٍ دولةٌ برجالِ! ليست كعزفِ الحاسبِ المتلألي! نقَسَ الكلامَ بسالفِ الأحوالِ |
أمثال العرب
زعموا أن ضبة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن معد وكان له ابنان يقال لأحدهما سعد والآخر سعيد، وأن إبل ضبة نفرت تحت الليل وهما معها، فخرجا يطلبانها، فتفرقا في طلبها، فوجدها سعد فجاء بها، وأما سعيد فذهب ولم يرجع، فجعل ضبة يقول بعد ذلك إذا رأى تحت الليل سواداً مقبلاً أسعد أم سعيد فذهب قوله مثلاً؟؟.
ثم أتى على ذلك ما شاء الله أن تأتي لا يجيء سعيد ولا يعلم له خبر، ثم إن ضبة بعد ذلك بينما وهو يسير والحارث بن كعب في الأشهر الحرم وهما يتحدثان إذا مرا على سرحة بمكان فقال له الحارث: أترى هذا المكان؟ فإني لقيت فيه شاباً من هيئته كذا وكذا -فوصف صفة سعيد- فقتلته وأخذت برداً كان عليه، ومن صفة البرد كذا وكذا -فوصف صفة البرد- وسيفاً كان عليه فقال ضبة: ما صفة السيف؟ قال: ها هو ذا علي، قال: فأرينه، فأراه إياه فعرفه ضبة ثم قال إن الحديث لذو شجون، ثم ضربه حتى قتله، فذهب قوله هذا أيضاً مثلاً
فلامه الناس وقالوا قتلت رجلاً في الأشهر الحرم فقال ضبة: سبق السيف العذل فأرسلها مثلاً.
البلاغة عند ابن المقفع
قال إسحاق بن حسان بن قوهى: لم يفسر أحد البلاغة تفسير عبد الله ابن المقفع إذ قال: البلاغة اسم لمعان تجرى في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون فى الاستماع، ومنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون سجعا، ومنها ما يكون خطبا، ومنها ما يكون رسائل؛ فغاية هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى؛ والإيجاز هو البلاغة، فأما الخطب فيما بين السّماطين وفي إصلاح ذات البين، فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال، ولكن ليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أنّ خير أبيات الشعر البيت الذى إذا سمعت صدره عرفت قافيته (كأنه يقول فرّق بين صدر خطبة النكاح وخطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة التّواهب، حتى يكون لكل فنّ من ذلك صدر يدل على عجزه) فإنه لا خير في كلام لا يدلّ على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذى إليه نزعت.
فقيل له: فإن ملّ المستمع الإطالة التي ذكرت أنها أحقّ بذلك الموضع؟
قال: إذا أعطيت كلّ مقام حقّه، وقمت بالذى يجب من سياسة الكلام، وأرضيت من يعرف حقوق ذلك، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو؛ فإنهما لا يرضيان بشيء؛ فأما الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شىء لا ينال.
شرح المشكل في شعر المتنبي
قال ابو الحسن علي بن إسماعيل النحوي المعروف بابن سيده: قال أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي رحمه الله تعالى:
أبْلَى الْهَوَى أَسفًا يومَ الْنَّوى بَدَنـىِ | وَفَرَّق الْهجْرُ بَيْنَ الْجَفْنِ والوَسن |
يذهب الناس إلى أن أسف البعد هي الذي أبلاه على عادة البِلَى وإنما قصد المبالغة، أراد أن البِلَى يعمل في الجسام فحالا على الأيام. وقد عمل فيه ليوم واحد، وهو يوم النَّوى، عمله لسنين.
وقال:
ظَلْت بهاَ تَنطَوِي عَلَى كَبدٍ | نَضِيجةٍ فَوق خِلْبِها يَدُها |
ظلت: أقمت، والخِلبُ: غشاوة الكبد والبيت مضمَّن بالأول وهو أبعد بان عنك خرَّدُها.
فالعامل في أَبْعدَ، ظلت كأنه قال: ظلت بها بَعْدَ ما بان خُرَّدُها، والمعنى: بعدما بان خردها، ظلت منطويا على كبد قد أنضجها التوجع وأذابها التفجيع، و(عليها يدها): إنما توضع اليد على الكبد خشية من ضعفها، يريد بذلك، وكذلك يُفْعَل بالفؤاد، كقول الآخر:
وضعتُ كفِّى عَلَى فُؤادي مِـنْ | نار الهوى وانْطَويت فَوق يَدِي |
وأكثر الناس على أن (نَضِيجَة)، صفة للكبد في اللفظ والمعنى، لا حظَّ لليد في النُّضج، وإنما يريد أن اليد موضوعة على خِلب الكبد فقط، ويُقَويه البيت الذي أنشدناه، وهو (وضعت كفى على فؤادي من……نار الهوى…..).
وقد يجوز أن يكون (نضيجة) صفة للكبد في اللفظ، ولليد في المعنى، أي على كبد قد نضجت يدها على خلبها من حرارتها، وهذا أبلغ لأنه إذا أنضجت اليد وهي موضوعة على الخلب من حر الكبد، فما الظن بالكبد؟ فإذا كان المعنى على هذا، جاز في (نضيجة) الجر والرفع، فالجر على الصفة للكبد في اللفظ، والرفع على أن يكون خبر مبتدأ، وذلك المبتدأ هو اليد، كأنه قال: يدها نضيجة فوق خلبها، وهذا كما تقول: مررت بامرأة ظريفة أمتها، فالظرف في اللفظ للمرأة، وفي الحقيقة للأمة، وإن شئت قلت: ظريفةٌ أمُّها، أي أمُّها ظريفةٌ.
وأما إذا كانت النضيجة صفة للكبد في اللفظ والمعنى، فإنه لا يكون فيها إلا الجرُّ. وكون (نضيجة) صفة لليد، أبلغ في المعنى، لأنها حينئذ نضيجة بما ليس في ذاتها، وإذا كانت نعتاً للكبد، فهي نضيجة بما في ذاتها، واحتراق الشيء بما ليس في ذاته، أبلغ من احتراقه بما في ذاته وإنما يريد أنه إذا وضع يده على كبده متألِّماً نضجت اليد بحر الكبد، كقوله:
هل الوجد إلا أن قـلـبـي لـودنـا | من الجمر قِيد الرمْحِ لاحترق الجمرُ |
وهذا عندي أبلغ من قول المتنبي، لأن اليد إذا كانت على خلب الكبد، فهي أقرب إلى الحرّ من الفؤاد من الجمر، إذا كان بينه وبين الجمر قِيدُ رُمح، مع أنه جعل الجمر الناريّ محترقاً من حر فؤاده، فحر الفؤاد إذن أشد من حر الجمر.
فصاحة
لمّا تولى الحجاج شؤون العراق، أمر الشرطة أن تطوف بالليل، فمن وجدته بعد العشاء ضربت عنقه، فطافت الشرطة ليلة فوجدوا ثلاثة صبيان فأحاطوا بهم وسألوهم: من أنتم، حتى خالفتم أوامر الحجاج؟
فقال الأول:
أنا ابن الذي دانت الرقاب له ما بين مخـزومها وهاشــمها
تأتي إليه الرقـاب صاغــرة يأخذ من مـــالها ومن دمها
فأمسك عن قتله، وقال: لعله من أقارب الأمير.
وقال الثاني:
أنا ابن الـذي لا ينزل الدهر قـــدره وإن نزلت يـــوماً فـسوف تعود
ترى الناس أفواجاً إلى ضـوء ناره فمنهم قيام حولـــها وقــعـود
فتأخر عن قتله وقال: لعله من أشراف العرب.
وقال الثالث:
أنا ابن الذي خاض الصفوف بعزمه وقوّمها بالســــيف حتى استقامت
ركاباه لا تنفك رجلاه عنـــهما إذا الخيل في يوم الكـــريهة ولّت
فترك قتله وقال: لعله من شجعان العرب.
فلما أصبح رفع أمرهم إلى الحجاج، فأحضرهم وكشف عن حالهم فإذا الأول ابن حجام والثاني ابن فوّال والثالث ابن حائك، فتعجب الحجاج من فصاحتهم، وقال لجلسائه: علّموا أولادكم الأدب، فلولا فصاحتهم لضربت أعناقهم ثم أطلقهم وأنشد:
كن ابن من شئت واكتسب أدبـا يغنيـــك محـمـوده عن النسبِ
إن الفتى من يقـول هـا أنـا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي