المنهاج النبوي لتخريج العدليين والإحسانيين (1) د. محمد وراضي

صاحب هذا المنهاج المعتمد لتخريج العدليين والإحسانيين: عبد السلام ياسين رحمه الله وغفر له؛ يعرف مرة بالأستاذ، ويعرف مرة بالشيخ، وأخرى بالمرشد؛ فإن كان الأستاذ هو المعلم الماهر في صناعة يُعلِّمها غيرَه، أو هو ذو كرسي في جامعة ما لتدريس مادة علمية بعينها، فهو عند الصوفيين المرشد الروحي للمريدين. وهنا جرى الحديث ويجري عن مجلس الإرشاد لدى جماعة العدل والإحسان! وهو مجلس يترأسه ياسين قيد حياته، ويترأسه الآن خليفته وكاتم سره أو حافظ أسراره!!!
أما الشيخ في عرف العامة، فرجل متقدم في السن، كان عالما أو غير عالم، كان صوفيا أو غير صوفي، ثم إنه في نفس العرف: رئيس قبيلة؛ وهو في الاصطلاح عند المسلمين عالم متمكن في كل ما يتعلق بالدين، كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وابن حنبل، وسفيان الثوري، وابن المبارك، وعبد الرحمان الأوزاعي، مما يعني أن هؤلاء جميعهم يقتدى بهم كأئمة على بينة من كتاب الله وسنة رسوله.
فهل نعتبر ياسين أستاذا أو مرشدا، أو شيخا ذا مكانة مرموقة في العلم بالله؟ بحيث يقتدى به في الدين، مثله مثل الأئمة الهداة المهديين المذكورين قبله؟ أم نعتبره شيخا صوفيا متخصصا في فرع من فروع العلوم الإسلامية، هذا إن نحن اعتبرنا التصوف -كما ورد في مقدمة ابن خلدون- «علما حادثا في الملة».
في مؤلفي «التصوف الطرقي بالمغرب الحديث والمعاصر – سوس نموذجا» خصصت الباب الأول لتناول «إشكاليات الفكر الصوفي»، وخصصت الفصل الأول من هذا الباب لتناول «إشكالية تعريف التصوف»؛ فقدمت عدة تعاريف بصرف النظر عن أخرى تجنبت تقديمها لطولها وتنوعها، فكان من جملة ما قدمته قول أحمد زروق في القاعدة الثانية من قواعده: «ماهية الشيء حقيقته؛ وحقيقته ما دلت عليه جملته؛ وتعريف ذلك بحد وهو أجمع، أو رسم وهو أوضح، أو تفسير وهو أتم لبيانه، وسرعة فهمه. وقد حد التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنما هي وجوه فيه، والله أعلم»!
وبعد القراءة النقدية لقول ابن خلدون ولقول زروق في التصوف، نكون قد وقفنا أمام رأي وانطباع: رأي صادر عن مشاركة بالملاحظة، وانطباع صادر عن ملاحظة بالمشاركة؛ وبين الإثنين تباعد وتميز. فالرأي ليس هو الانطباع، يعني أن الموضوعية ليست هي الذاتية؛ فابن خلدون مفكر عالم، باحث ناقد، وأحمد زروق شيخ متصوف ذائق.
فإن كان التصوف علما كما قال ابن خلدون، فإن لكل علم موضوعه، وموضوع العلم، أي علم، هو الذي يحدد منهج دراسته. يكفي القول على سبيل المثال: إن الصبار هو الذي يفرض علينا كيفية تناوله؛ ونفس الشيء يقال عن الجوز الهندي وعن كافة أنواع الفواكه! مما يعني أن موضوع الفقه هو الذي يفرض علينا كيفية دراسته، ونفس ما صدق عليه، يصدق على الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء؛ فموضوعات هذه العلوم كلها هي التي تفرض علينا منهج دراستها.
وانتصارا مني لرأي ابن خلدون في التصوف، واقتناعا مني به، توصلت إلى أن «التصوف علم، موضوعه القناعات الدينية النظرية، والممارسات التعبدية التطبيقية الصادرة عن السالكين لطرق محدثة في العبادة. ومنهج دراستها منهج استقرائي تمحيصي يقوم على المقارنة والمقاربة، لمعرفة ما إذا كانت تلك القناعات وتلك الممارسات مطابقة أو غير مطابقة للوارد في كل من الكتاب والسنة».
فإن نحن اعتبرنا ياسين مرشدا، أو شيخا، أو أستاذا، أو مربيا صوفيا، فلا بد لنا لقراءة طريقته التربوية والصوفية من اعتماد المنهج الذي أوضحناه لتناول موضوع حددناه على المستوى النظري والتطبيقي، حتى نتأكد من كونه فعلا يعتمد ما سماه بـ«المنهاج النبوي» لبناء الإنسان المسلم الحقيقي من ناحية، ولتأسيس دولة على أساس من كتاب الله وسنة مجتباه، ترسو دعائمها المتينة من ناحية ثانية. وهو الذي ترك لنا في باكورة مؤلفاته التي هي «الإسلام بين الدعوة والدولة» فهمه للدين، وللكيفية التي يلزم أن يجري بها تطبيقه.
لنترك الرجل الذي يقف اليوم خلفه -وهو راحل عن الفانية- آلاف المقتدين به، لنتركه يحدد لنا بقلمه ما الذي يعنيه عنده «المنهاج النبوي»؟
يقول: «وننظر الآن إلى الحجة التاريخية القاطعة في حياتنا المعاصرة على أن العنف لن يكون أبدا طريق المسلمين إلى الانبعاث! وكيف يكون (كذلك) وهو مخالف للمنهاج النبوي».
ويقول: «وقد ترك لنا التاريخ أمثلة لاهتداء المؤمنين وتدرجهم في معارج الرقي الروحي على المنهاج النبوي الكامن سره في كتاب الله وسنة نبيه. ونحن نكتب أساسا لنجلي هذا المنهاج ولنقتنع بنجاعته لنتخذه مفتاحا للمستقبل المشرق بنور الهداية».
ويقول: «أما والله لن يكون لنا شأن إن لم نرجع إلى الإسلام على كتاب الله وسنة رسوله، وعلى المنهاج النبوي الكامل الذي يرقى بالمسلم ويربيه على الإيمان والإحسان، ويحرر عقله وإرادته من ظلام الجاهلية إلى نور الله الذي نمشي به في الناس».
ويقول -ومرجعنا دائما هو كتابه «الإسلام بين الدعوة والدولة»-: «والسيد الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سيد السنيين. والسنة هي المنهاج (؟؟؟) والمنهاج صحبة وجماعة وذكر بالمبايعة الصادقة الوفية»؟
وفي العدد السابع من «مجلة الجماعة» (ص:12) يقول: «المنهاج النبوي الموعود أن تقوم الخلافة به كما جاء في الحديث الصحيح (أي حديث وما مصدره؟)، هو الطريقة (أي إنه ليس هو السنة!) التي بها يستعيد المسلمون معاني الرسالة، حتى يشخصوها ويبلغوها وينقذوا بها العالم. ويقتضي المنهاج النبوي تطبيق أحكام الله كلها بتدرج، لكن بلا تحريف ولا مراوغة».
فيصبح من حقنا أن نتساءل عن فحوى هذه النصوص الغامضة المتنافرة المتضاربة التي ينقصها الوضوح والانسجام؟ إنها كلام، صاحبه هو نفسه لا يدرك مدلوله كما سوف نوضح.
فالمنهاج النبوي الذي يتحدث عنه، يلح على تجنب مواجهة خصوم الدين بالصرامة اللازمة أو بالعنف الشديد! لكن الاعتداء على المسلمين في الماضي والحاضر والمستقبل، مدعاة إلى القوة المضادة للتحرر ودفع الأذى، والحد من الاستعباد، للحصول على الحرية والاستقلال المشروعين وتحرير الأرض. هذا كان موقف الشعوب العربية والإسلامية، حينما تم احتلال بلدانها من طرف الاستعمار الأجنبي، وهو نفس ما جرى ويجري في أفغانستان، وفي العراق، وفي فلسطين.. وإلا فليقرأ ياسين وأتباعه بعده قوله سبحانه: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.
وعندما يتحدث الرجل عن «الرقي الروحي على المنهاج النبوي» فما الذي يقصده بهذا الرقي الذي ليس جسديا كما أكد صاحبه القائل به؟ هل هو الذي يتقاطع تمام التقاطع مع العنف؟ وعن أي عنف يتحدث؟ عنف الحكام والاستكبار الدولي ممثلا في الغربيين والأمريكيين والمعسكر الشرقي على عهد الحرب الباردة؟ أم إنه يتحدث عن العنف الذي تلجأ إليه منظمات سرية تستهدف الإطاحة بنظام ظالم غاشم في هذه الدولة العربية أم في تلك؟ أم إنه يتحدث عن عنف مواجه لعنف مقابل حين يشتعل أوار انتفاضات أو ثورات شعبية، نظير ما حصل والربيع العربي على أشده؟ أم إنه يتحدث عن الرقي الروحي في المقامات أو في المنازل والمدارج التي يقطعها الصوفي على مراحل، لينتهي إلى حيث لا يرى في الوجود غيره سبحانه! بحيث إنه يفنى فيه، فيصبح هو وإياه ذاتا واحدة؟ لا يتميز فيها المطلق عن النسبي! بل إنه يصح في الاعتقاد الصوفي أن لا وجود للنسبي ما دام هو مجلى للمطلق الذي لا يوجد غيره (وحدة الوجود)؟
ثم يقسم الرجل بالله مؤكدا كون الرجوع إلى الكتاب والسنة والمنهاج النبوي هو السبيل الوحيد إلى التخلص من ظلام الجاهلية، وصولا إلى نور الله الذي نمشي به في الناس!
فهل نفهم من قسمه أن الكتاب والسنة والمنهاج النبوي ثلاثي متناغم معناه واحد؟ أم إن واو العطف التي تربط بين مفرداته أو تفصل بينها، تعطي لكل منها مفهومه الخاص؟ يعني أن الكتاب له مدلول متميز، وأن السنة لها دلالتها الخاصة، وأن المنهاج النبوي غير الكتاب وغير السنة؟ أو أن السنة والمنهاج لفظان مترادفان! فإن قلنا السنة قلنا المنهاج! وإن قلنا المنهاج قلنا السنة في الوقت ذاته! إذ لا فرق بينهما على الإطلاق!
أخبرنا ياسين قبل الآن، أن السيد الجليل عبد الله بن عمر «سيد السنيين، والسنة هي المنهاج؛ والمنهاج صحبة وجماعة وذكر بالمبايعة الصادقة الوفية»!
ومتى كانت السنة هي المنهاج، فقد كان على الرجل أن يقول في قسمه المتقدم: إن الكتاب والمنهاج هما السبيلان الوحيدان إلى التخلص من ظلام الجاهلية! أو يقول: إن الكتاب والسنة هما السبيلان الوحيدان إلى التخلص من ظلامها، ما دامت السنة هي المنهاج! وما دام المنهاج عنده هو السنة! أما أن يتحدث عن الكتاب والسنة والمنهاج، هكذا بهذا الترتيب، فقد أقر بأن لكل واحد من هذا الثالوث معناه المتميز! فكأنه يزعم أن سعيدا غير إبراهيم وأن عليا غير حسين! وأن نجيبا غير توفيق!
إضافة إلى ما ذكر، فإننا لا نملك أي دليل نقلي أو عقلي على أن السنة هي المنهاج، وأن المنهاج هو السنة؟ وهذا الزعم الياسيني، هل له وجود في النظم الكريم؟ أم إن له وجودا في سنة المجتبى صلى الله عليه وسلم؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *