إذا كانت شخصية شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي رحمه الله تستحق الاحتفاء والاعتناء؛ فإن الحفل الذي نُظّم ليلة الجمعة 28 شعبان 1435 الموافق لـ26 يونيو 2014 بمناسبة صدور كتاب: “حياة شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي”؛ يعد مظهرا من مظاهر ذلكم الاحتفاء؛ وبرهان ذلك أنه تحلى وتزيّن بحضور ثلة مباركة من رجالات العلم والثقافة والدعوة والفكر والسياسة.
وقد تلألأت مداخلاتهم دررا منتظمة في عقد فريد:
افتتح المداخلات الدكتور محمد بولوز (الإطار التربوي ومفتش التعليم الثانوي) مبرزا جانبا من جوانب أهمية الموضوع؛ ويرجع إلى ما تميزت به حياة المترجَم رحمه الله من إيجابية تمثلت في حرصه على أداء واجب الإصلاح في كل الظروف ومهما كانت التحديات، ومقاومة الفساد مع المحافظة على المزايا والمكتسبات، ومن هنا أكد الدكتور على أهمية الاجتهاد في العمل الإصلاحي من داخل مؤسسات وهيئات الدولة والمجتمع، وأن هذا كفيل بتحقيق إنجازات مهمة وإضافة مكاسب نفقدها في حال السلبية والتقوقع ..
العلامة لحسن وجاج (الداعية الكبير وأستاذ الدراسات الإسلامية) أكد أن صدور الكتاب يشكل امتدادا لشعلة الدعوة السنية السلفية التي يمثل الحاضرون تجليا واقعيا له (أي: الامتداد)، مبرزا أن هذا الملحظ كان من أهم مقاصده في تأليفه لكتاب “منبهة الإمام أبي عمرو الداني دراسة وتحقيقا”؛ حيث أبرز في قسم الدراسة جهود هذا الإمام في نصرة السنة ومقاومة البدع والمحدثات التي تؤدي إلى خفوت نور تلك الشعلة ..
أما الدكتور أحمد الريسوني (العالم المقاصدي والمفكر الإسلامي) فلم يتردد في اقتباس كلمة الزعيم علال الفاسي حين قرأ كتاب السيد قطب “السلام العالمي والإسلام”؛ فقال: “وددت لو كنت أنا مؤلف الكتاب”.
مؤكدا على أن تأليف مثل هذه المؤلفات يُعدّ من واجبات الوقت؛ لأنه يقوم بنفض الغبار عن مثل هذه الشخصيات التي يتعمد البعض إقصاءها وتهميشها والتعتيم عليها وعلى أدوارها الكبيرة في الإصلاح والدعوة إلى الله وخدمة الوطن ..
الأستاذ إدريس كرم (الباحث السوسيولوجي في التاريخ والدين والتنمية) قدّم في مداخلته معلومات تاريخية عن السلفية المغربية وارتباطها بالحركة الوطنية تأسيسا ونضالا.. مبرزا أهمية ارتباط السلفيين المغاربة بجذورهم التاريخية التي تجعل علاقتهم بالمشرق علاقة انفتاح وتعاون وليست علاقة انصهار وتقليد، وهو المطلوب أيضاً من النخب المثقفة ثقافة عصرية؛ أن يتمسكوا بجذورهم ومقومات هويتهم وأن يتفادوا الخلط بين اقتباس المعارف الغربية النافعة والارتماء في أحضان الغرب تقليدا وانصهارا ..
من جهته ثمّن الدكتور مولاي عمر بن حماد (أستاذ التعليم العالي) الكتاب ورسالته الهادفة إلى حفظ الذاكرة، معرفا بأحد المشاريع العلمية الكبيرة التي تشتغل عليها حركة التوحيد والإصلاح في التعريف بالأعلام المغاربة تحت عنوان: “موسوعة أعلام الفكر والدعوة بالمغرب المعاصر” وتتضمن ترجمة أكثر من 112 شخصية..
أما الدكتور عبد السلام بلاجي (البرلماني وأستاذ الفقه والعلوم السياسية) فقدم للمجلس فوائد نفيسة، وأشار إلى بعض العلماء الذين تمس الحاجة إلى التعريف بهم كما تم التعريف بالفقيه بن العربي؛ من أمثال: الشيخ محمد الرافعي في الجديدة الذي كان يعرف بصاعقة العلوم لنبوغه وإتقانه لعلوم كثيرة..
(داعية سوس) الشيخ محمد شوقي؛ داعب المجلس بما يعرف عنه من مرح ونكتة، ممهدا بذلك لفائدة؛ وهي أن شيخ الإسلام وإن لم يخلف كتابا كما هو الغالب على المغاربة؛ فقد ترك لنا منهجا إصلاحيا متكاملا نسير عليه، والكتاب جمع أصول ذلك المنهاج، مطالبا بتكميل خطوة الكتاب بخطوات أخرى تأصيلا وتحليلا وتفريعا.
أما الأستاذ عبد الكريم حباقي (عضو مكتب جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة)؛ فشدد على ضرورة تمسك السلفيين بشمولية منهاجهم والاقتداء بعميد السلفية في المغرب (هو اللقب الذي وصف به العلامة محمد البشير الإبراهيمي؛ المترجَم)؛ فإن المتتبع لحياته؛ يرى أنه قد اجتمع فيه ما تفرق في غيره؛ ويجده مبرّزا في العلم وفي الدعوة وفي السياسة والثقافة والفكر، وهذا هو الإسلام، وهذه هي السلفية..
جريا على عادته؛ نثر الدكتور عادل رفوش (العالم والشاعر والداعية المغربي) على بساط المجلس دررا نفيسة من التوجيهات التربوية والعلوم الشرعية واللغوية والتاريخية التي ختمها بالإحالة على قصة جميلة رائعة من قصص السيرة النبوية العطرة، مشيرا إلى دلالتها المرتبطة بالشخصية المترجم لها، وهو حديث عظيم قلّ من ألمح إليه، وقد أحاله على مؤلف الكتاب، وطلب منه إبراز دلالته المذكورة:
والقصة أخرجها أبو نعيم والبيهقي في الدلائل وابن حبان في الثقات عن ابن عباس قال: حدثني علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج -وأنا معه وأبو بكر- إلى منى ..
قال: “ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات فتقدم أبو بكر فسلم، قال علي: وكان مقدما في كل حين..
ثم ذكر القصة؛ وفيها:
فقال مفروق: لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلام تدعو يا أخا قريش؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن تؤووني وتمنعوني وتنصروني حتى أؤدي عن الله تعالى ما أمرني به فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد”.
قال له: وإلام تدعوا أيضا يا أخا قريش؟
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} [الأنعام:151] إلى قوله تعالى: {فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام:153].
وقال له مفروق: وإلام تدعوا أيضا يا أخا قريش؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم لعرفناه.
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى قوله تعالى: {لعلكم تذكرون} [النحل:90].
فقال له مفروق: دعوت والله يا قرشي إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.
ثم تحدث هانئ بن قبيصة وبعده المثنى بن حارثة فقال: قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش وأعجبني ما تكلمت به، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة.. وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا، ولعل هذا الأمر الذي تدعو إليه تكرهه الملوك؛ فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول، وأما ما كان مما يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول؛ فإن أردت أن ننصرك مما يلي العرب فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه”.
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ..”.
وقد ذكر الحديثَ مختصرا الحافظُ في الفتح مع تحسينه ..
فتأمل أيها القارئ جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمثنى بن حارثة لما اشترط في نصرته أن تكون فقط مما يلي العرب وعدم التزام نصرته ضد فارس؛ فأجابه عليه السلام:
“إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه”اهـ.
فالحديث نص قاطع جلي في أن شرط النصرة لهذا الدين تحمل مسؤوليته في كل جوانبه؛ لا تجزئةً ولا تبرئةً، وأنه لا بد من مدافعة من يحارب الدين وإن كان من الأقوياء، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منهم تجزئة النصرة ولا تبعيض مجالات المدافعة..
لقد ضاق الوقت عن استيعاب مداخلات أخرى يغلب على الظن أنها كانت ستزيد هذا المجلس علما ونورا؛ ومنها مداخلة عالم النفس الكبير الدكتور لطفي الحضري صاحب نظرية (علم النفس الفطري).
كما أننا افتقدنا في هذا المحفل الكبير؛ شخصيات أخرى وجهت لها الدعوة للحضور؛ لكن تعذر عليها ذلك ..
أذكر منها الدكتور عباس الجراري (مستشار صاحب الجلالة الملك محمد السادس)، والعالم المربي الشيخ محمد زهرات، والعالم الفقيه الشيخ عبد القادر دراري (الأستاذان بدور القرآن التابعة لجمعية الدعوة إلى القرآن والسنة)، والعالم الأصولي الشيخ حسن الشنقيطي الذي صادف موعد الحفل موعد طائرته إلى الدانمارك.
كما تعذر حضور الدكتور عبد العلي حامي الدين (أستاذ العلوم السياسية بجامعة عبد المالك السعدي)، وقد أبدى تفاعلا مع موضوع الكتاب، وتأسف لعدم تمكنه من الحضور لكونه مشغولا بتصحيح بحوث الطلبة في طنجة..
وعموما فقد أجمع المتدخلون على تقريظ الكتاب والإشادة به، كما اعتبروا المجلسَ سُنّة حسنة في الاحتفاء بالمولود العلمي الذي يخرج من رحم الفكر، كما يُحتفى بالمولود الذي يخرج من رحم الأم..
وهو ما جعل الحفل بحق: “نسيكة كتاب” ..