الخلل المنهجي الذي يطبع برامجنا الإعلامية
لقد استطاع العلمانيون في مجتمعاتنا الإسلامية السيطرة على المجال الإعلامي واكتساح ساحته، حتى صار المتتبع قادرا على الحسم في غير شك، أن إعلامنا خاصة السمعي البصري منه هو إعلام علماني الهوية بامتياز. هذه حقيقة تتكشف من خلال ما يبثه هذا الإعلام، لا يحتاج معها المرء إلى طول بحث حتى يدرك هدفها الذي هو تحويل المسلمين عن دينهم.
قنوات كيد وظيفتها في حملة ظالمة ضد الإسلام، بث برامج متكررة بأشكال متعددة تحمل عكس مبادئ وثقافة وقيم مجتمعاتنا؛ تارة في صورة أفلام ساقطة تلوث الأخلاق، وأغاني ضد العفة تحطم الفضيلة وتشيع الفاحشة، وهذه بات أمرها أظهر من أن يذكر وأحقر من أن ينشر.
وأخرى تكون إما في صورة برامج اجتماعية، تهتم بإصلاح الأسرة خارج المظلة الإسلامية وذلك كبرنامج الخيط الأبيض. وثالثة في صورة مناقشة علمية تحت خدعة برامج ثقافية، تقوم على منهج فلسفي أساسه التشكيك في كل مسلّم. متخذة من أجندتها وعملائها العلمانيين أداة زعزعة عقيدة المسلمين وخلخلة تصوراتهم وبلبلة أفكارهم والتشكيك في مسلماتهم.
إنه لخطأ ضخم حينما يخاض في مناقشة مسائل اجتماعية فرعية وقضايا جزئية، مناقشة تفصيلية مفككة عن المبادئ الكلية والمفاهيم العامة، دون تحديد المرجعيات التي تتحكم في هذه الجزئيات. إنه خلل منهجي الغرض من استعماله ضرب الخصم غيلة وغدراً.
لا بد أن نحدد أولا في جلساتنا وندواتنا وحواراتنا من نحن وماذا نريد؟
لا بد أن نحدد أولا هل نريد الإسلام في حل مشاكلنا أم نريد غير الإسلام؟
فمن اختار الإسلام وأعلن أنه مسلم لزمه الانطلاق من الأحكام الشرعية، إيمانا منه بحجية وحاكمية الإسلام؛ وحسبه أن الله قد شرع، ليستيقن أن وراء تشريعه سبحانه حكمة وأن فيه مصلحة. وهذا لا يعني المنع من البحث عن الحكمة مما قررته الشريعة، وإنما يعني المنع من رفض أحكام الشريعة بعلة عدم إدراك الحكمة من تقريراتها. وذلك لأن عدم إدراك الحكمة معناه الجهل بحقيقتها، والجهل بالشيء لا يعني عدم وجوده.
وحسبنا هذا الاستطراد، فقد أردنا به التحذير من ألاعيب العلمانيين الذين يريدون للمسلمين الضلالة بعد الهدى، ثم إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بما يكشفه العلم من نظريات عن الكون والحياة والإنسان.
فالمسلم لا يبني إيمانه على البحوث العلمية، وإنما يبني إيمانه على ما ثبت من عند الله ورسوله. فهو إذا قرار الله ورسوله حقيقة في أمر خلقه، لا يتردد في قبولها والإذعان لها. ولا يعلق إيمانه بها بفروض العقل ونظرياته. لأن النظريات هي دائما موضع بحث ومراجعة، ومعرضة للنقض والبطلان.
فالقرآن مثلا أثبت مادة خلق الإنس والجن، وأثبت أن للجبال علاقة بتوازن الأرض واستقرارها، وأثبت أن الشمس تجري لمستقر لها، وأثبت أن الأرض فصلت عن السماء، وأثبت خروج اللبن من بين فرث ودم، وأثبت أن اللحم لا يتكون عند تكوّن الجنين إلا بعد ظهور العظام، إلى غيرها من الحقائق العلمية التي قررها القرآن بكل ثقة وجزم ووضوح، وهي لم تكن معروفة لبشر في ذلك العهد. لكن المسلم استيقنها لمجرد ورودها في القرآن أو في صحيح السنة، لأنهما في حسه حجة على تقريرات علماء الغرب، وليس العكس كما يحب الذين ألفوا السير خلف الغرب على بعد مسافة خمسين عاما.
هذا لمن اختار الإسلام وأعلن أنه مسلم، أما من اختار غير الإسلام وإن تسمى بأسماء المسلمين، فليس له أن يشارك من حيث أنه مسلم، وهو يعترض على مبادئ الإسلام ولا يقبل تقريراته. لا ينفعه والحال أنه اختار لنفسه أن يكون خارج دائرة الإسلام في طريقة تفكيره، أن يدعي لنفسه أنه مسلم، أو يتكلم بصفته مسلما، وهو لم يتحرر بعد من سخافة الثقافة الغربية المتمثلة في تصور الرجل الغربي العداوة بين كل ما هو ديني وما هو علمي.
هذا ما ينبغي أن يتبينه المسلم المتتبع لإعلامنا المتعلمن في برامجه وحواراته، وذلك حتى لا ينخدع بخدعة ادعاء الإسلام ممن لا يريد الإسلام أو على الأقل ممن ينظر إليه بمنظار غربي.
برنامج بدون حرج وموضوع الإصابة بالعين
فمما أثار حماسي للكتابة في هذا الموضوع، هو ما أدلى به الأستاذ في علم النفس نبيل عبد الصمد على هامش حلقة «المغاربة والعين» من برنامج بدون حرج.
وقد كان إدلاؤه يصطدم اصطداماً مباشراً مع مقررات دين الإسلام، بخصوص ثبوت الإصابة بالعين، حيث قال معترضا دون خروجه من دائرة المحسوس التي يشاركنا في إدراكها الحيوان والبهائم، إذ لا وجود في عالمها لغير المحسوس.
وذلك بقوله: (علميا ليس هناك شيء يسمى الإصابة بالعين، العين كسائر الأعضاء، كالأذن واليد)، هكذا دون خجل، وذلك لأن الجدل في مثل هذا الموضوع على هذا النحو عبث بالعقل، وينم عن جهل المعترض بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده. وكذا ينم عن جهله بما ورد في الشرع بخصوص هذا الأمر كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر)، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يقول في تعوذه: (أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة)، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث سهل: (علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت إن العين حق..). ثم قوله:(إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو أخيه ما يحب فليبرك، فإن العين حق). وقوله عليه الصلاة والسلام (استعيذوا بالله، فإن العين حق). وهي كلها تدل بمنطوقها على وقوع الإصابة بالعين.
وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد قال: إن هذا كائن، فالأمر إذن ثابت. وكما هو معلوم: أن أصل الإيمان تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر.
فالذي ينتظر كلمة العلم الغربي ليستيقن من إيمانه، يحتاج إلى إعادة النظر في إسلامه! لأن قول النبي في هذا الأمر منطوق وصريح، وليس ضمنياً ولا مفهوماً! والنظريات العلمية بعد ذلك توافقه أو تخالفه سواء.
إنها قضية إيمان واعتقاد، وليست قضية رأي وفكر!
فلا يجوز لباحث مسلم أو مقدم برنامج أن يصرح كذبا بما يوهم أن من العلم ما يعارض التقريرات القرآنية والنبوية القاطعة، إلا على سبيل التفنيد. لا كحال مقدمة برنامج بدون حرج في تعليقها الذي يتضمن توجيها سيئا، يفقد القارئ الثقة بنصوص الشرع، فيتوهم أن من التقريرات الإسلامية ما يخالف العلم المادي، وذلك بقولها: (هناك طرح علمي يقول بعدم وجود العين ولا ينبغي تماما أن يكون لها تأثير على حياة البشر). أو كقول صاحبة الربورطاج فاتحة أوعلي (العين الشريرة.. مفهوم تعضده التأثيرات الثقافية والخطاب الديني، فيما يدحضه البرهان العلمي).
وهذه تصريحات تتضمن مغالطة واضحة، لأنه لا ينبغي القول أن العلم يقول بعدم وجود الإصابة بالعين، أو أنه يدحض القول بوجودها. وإنما القول الصحيح هو أن العلم الحديث لم يتوصل إلى ما يُثبت به الإصابة بالعين. وعدم بلوغ العلم الغربي المادي التجريبي إلى إدراك حقيقة الإصابة بالعين لا يكون دليلا على عدم وجودها، بل هو دليل على عجزه وجهله. وهذا أمر في غاية الوضوح.
ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الإصابة بالعين؟
ألمجرد أن هذه الإصابة تعلقت بها خرافات وأساطير وأوهام هي من صنع الناس؟
إن طريقة من يحترم عقله في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات وتنحية كل زائف وتصحيح التصورات الخاطئة، لا التبجح بنفي القول بوجود الإصابة بالعين بلا حجة ولا دليل.
وصدق الله العظيم القائل:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى}.