لا شك أن الغيرة منزلة رفيعة ودرجة سنية، وسلوك يقذفه الله في قلوب الذين يحملون في أفئدتهم همَّ عزة الدين وغمَّ صلاح الأمة، ويشفقون على حِمَى السنة وصرح الجماعة من كل أمر دخيل وداء وبيل، ومطية هؤلاء الغيورين ملازمة الدعوة إلى الله.. الدعوة إلى رحاب الإيمان ونعيم الإقبال ولذة الإنابة وحلاوة التصديق.. دعوة نداء، وصرخة طلب، وحرص وإلحاح على إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الحق ومن شقوة الظلم وضنك الحاجة إلى جنة العدل وفسحة الكفاف، وهُم في غمرة هذا التكليف والحرص الشديد على تقديم الخير وحب النصيحة للغير يعلمون أن وظيفتهم وظيفة بيان وتبليغ وكفى، أسوتهم في ذلك أعظم داعية، أسوتهم من أدَّى الأمانة ونصح الأمة، أسوتهم من قال له ربه: “وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”، لكنه لما أهداها بيضاء نقية إلى عمِّه وهو على فراش الاحتضار أبى واستكبر وآثر الذي هو أدنى عن الذي هو خير وأبقى، في الوقت الذي جاءها سلمان رضي الله عنه يسعى من بلاد فارس فتدثر بثيابها السندسية وتحلى بأساورها الفضية وبلغ به السعي أن وسَّمه الصادق المصدوق بمنحة القرب وشرف الحب: “سلمان من آل البيت”، فسبحان من بيده قلوب العباد يقلبها بين كونية الخذلان وشرعية التوفيق.
إن نبينا وهو يبشر وينذر رفع عنه ربه إصر اللوم والمؤاخذة، فبعد الصدع بالحق وتقريع الآذان الصماء والقلوب المقفلة والأجفان المتتائبة وتمييز الغي عن الرشد قال له ربه وهو يؤسس أركان هذا الدين القيم: “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ”، وقال له عز وجل “إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ”، وقال له تعالى: “فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ”، وقال له مرسِله: “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ” وقال له سبحانه وتعالى: “إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ”.
ولعل الناظر في حياة محمد عليه الصلاة والسلام بشقيها المدني والمكي يدرك تجليات هذه النصوص في الأسلوب الدعوي لرسولنا عليه الصلاة والسلام، فهو لم يساوم ولم يقبل بأنصاف الحلول ولم يداهن، ولو شاء وقد عرض عليه المال والملك زد على هذا صدقه وأمانته وطهر نسبه لاختار أيسر السبل ولأخضعهم لسلطان بشريته وسمو مكانته، ثم أسس لنفسه عسكرا أناط به مسؤولية إخضاع الرقاب المتعنتة لكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولكنه اختار المنهج الرباني، لعلمه صلى الله عليه وسلم أنها أمانة وتكليف، فاختار الأذى، وصبر على شر القريب، وتجهم البعيد، وما قِصَّة الطائف إلا واحدة من عشرات صور تعنت المكيين وصدِّهم لدعوة الحق دعوة إخراج الناس من عبادة الحجر والشجر إلى عبادة خالق كل شيء سبحانه وتعالى.
لقد مدَّ محمد عليه الصلاة والسلام يده عامرة بالخير ملأى بالمعروف، فتصدت لها لأول وهلة أيدي الغدر، أيد حافلة بالمكر والعدوان، لكن سيرة نبينا العطرة حملت بين ثنايا ذكرها ثبات محمد والذين معه، وآخرين صاروا على دربهم وحملوا عين الأمانة، ولم يغيروا ولم يبدلوا، ولم تنل منهم رياح العاديات ولا سهام الموريات.. فما بال أقوام اليوم ركبوا صهوة البدعة باسم التجديد، وخاضوا في مسالك المتشابه باسم التأويل، ووقَّعُوا صكوك التنازلات باسم المصلحة الدنيوية.
نعم إن دعاتنا الجدد خريجي المؤسسات المتخصصة جاءوا يحملون مشروعا طوباويا، يريدون من خلاله تلميع وجه هذا الدين، وحفظ وسطية الإسلام قربانا وتقربا من السيد الأبيض الذي صار له في العير والنفير، فلا غرابة إذن والحال كذلك أن يخرج علينا بعض من هؤلاء “الرخويات” بمسلمة مفادها أن الناس قد سئموا من ذكر الموت ورواية الجحيم والعذاب الأليم، فمهمة أمثاله أن يقدموا للناس الحياة وما طاب ولذ.
ولا عجب كذلك أن يستنبط واحد من هؤلاء وهو يتفرس في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خط رسول الله خطا وعلى جوانبه خطوط..” الحديث، أن رسول الله كان يؤمن برسالة الفن السامية، وذلك من خلال استعانته بهذا الرسم التشكيلي في مجال الدعوة إلى الله، والنصح للصحب الكرام..، ولا استنكار إذا صرح أحدهم بأننا أمة تعشق الفن وتمجد الفنانين، مستدلا على هذا الهراء بكون النبي صلى الله عليه وسلم كان له أربعة شعراء مقربين بالمصاهرة، مشرفين بمنة الصحبة.
فيا ليت شعري لو أنك بيننا يا رسول الله لترى وتسمع، وقد أعلمت أسلافنا بأمر هؤلاء المطففين الذين إذا اكتالوا للدنيا يستوفون، وإذا كالوا للآخرة أو وزنوا يخسرون، باعوا حظ العاقبة بسراب العاجلة ومتاع الغرور..
وحري بالمرء في مقام النقد أن يلتمس العذر سواء كان العمد جهله بسيط أو مركب لو كان المستهدف غير حمى الدين، ولكن المغنم منا عظيم، والفقد فينا جسيم، كيف لا وقد صار من نتاج هذا الخطاب الجديد حجاب شفاف كشاف وصاف، وإباحة واختلاط ورخصة ناي ومزمور، وتحليل جعة شعير، زد على هذا: خمس رضعات من ثدي غير المحرم تصير بهن الخلوة جلوة، وتصير الأجنبية التي حماها شرعنا من النظرة الثانية أمًّا حنونا، وحضنا مكنونا، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.