.. ثم قال ابن عبد البر: “اتفق أهل الأديان على أن العلم الأعلى هو علم الدين، واتفق أهل الإسلام أن الدين تكون معرفته على ثلاثة أقسام: أولها معرفة خاصة الإيمان والإسلام، وذلك معرفة التوحيد والإخلاص، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو المؤدي عن الله والمبين لمراده ولما في القرآن من الأمر بالاعتبار في خلق الله بالدلائل من آثار صنعته في بريته على توحيده وأزليته سبحانه.
والقسم الثاني: معرفة مخرج خبر الدين وشرائعه، وذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي شرع الله الدين على لسانه ويده، ومعرفة أصحابه الذين أدوا ذلك عنه، ومعرفة الرجال الذين حملوا ذلك وطبقاتهم إلى زمانك، ومعرفة الخبر الذي يقطع العذر لتواتره وظهوره.
والقسم الثالث: معرفة السنن؛ واجبها وأدبها وعلم الأحكام، وفي ذلك يدخل خبر الخاصة العدول ومعرفته ومعرفة الفريضة والنافلة ومخارج الحقوق ومعرفة الإجماع من الشذوذ، قالوا: ولا يتوصل إلى الفقه إلا بمعرفة ذلك.
وأخيرا ذكر ابن عبد البر ما ينفع وما لا ينفع من العلوم في الدنيا والآخرة فقال: قال أبو إسحاق الحوفي: “العلوم ثلاثة: علم دنياوي وعلم دنياوي وأخروي وعلم لا للدنيا ولا للآخرة؛ فالعلم الذي للدنيا علم الطب والنجوم وما أشبه ذلك، والعلم الذي للدنيا والآخرة علم القرآن والسنن والتفقه فيهما، والعلم الذي ليس للدنيا ولا للآخرة علم الشعر والشغل به، وأشد ضررا منه الشغل بالنجامة، والمتخرصون بالنجامة كالمتخرصين بالعيافة والزجر وخطوط الكف والنظر في الكتف والعلاج بالفكر وملك الجن وما شاكل ذلك مما لا تقبله العقول ولا يقوم عليه برهان مع فساد أصله.
قلت: تقسيم ابن عبد البر للعلوم مبني على المنظور الإسلامي الذي يراعي صلاح الدنيا والآخرة، أما تقسيم العلوم المبني على المنظور غير الإسلامي في الأمم القديمة والحديثة فهو لا يراعي إلا الجوانب المادية من قيم العلوم، ومن ثم أصبحت المعرفة التقنية أثمن شيء عند الأمم المعاصرة وأغلى بضاعة في أسواق تجارتها ومعارض بيعها وشرائها؛ فترى الشركات تغالي في شراء العقول وتحصيل الكفاءات العلمية والطاقات الفكرية بمبالغ عالية دون النظر إلى جنسها أو لونها..
التحذير من الاشتغال ببعض العلوم:
هذا عن تقسيم العلوم، وأما عن التحذير من الاشتغال ببعضها لعدم مشروعيته أو لكون غيره أهم منه؛ فمن ذلك البعض ما أشار إليه ابن عبد البر آنفا وقال أنها مما لا تقبله العقول ولا يقوم عليه برهان مع فساد أصله، ومنه الاشتغال بعلم المنطق الذي عرف خلافا عريضا بين علماء الحديث وعلماء الكلام، ذلك الخلاف الذي نظمه صاحب السلم فقال:
فابن الصلاح والنواوي حرما *** وقال قوم ينبغي أن يعلما
والقولة المشهورة الصحيحة *** جوازه لكامل القريحة
ومنه الاشتغال بعلم الكلام، وفي ذمه والتحذير منه يقول أبو يوسف لبشر المريسي: “العلم بالكلام هو الجهل والجهل بالكلام هو العلم”، ويقول الإمام الشافعي: “حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام” ويقول الإمام أحمد: “إن من خاض في شيء من علم الكلام لا يكون سنيا وإن أصاب بكلامه السنة حتى يدع الجدل ويسلم للنصوص”، ويقول ابن خويز منداد المالكي: “أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع؛ أشعريا كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبدا ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى استتيب منها”اهـ
يتبع..