حتى وإن أبعدنا النُّجعة عن الحطام الفكري للقائلين بكون العلمانية هو مصطلح ثابت مستقر، فلا أظن أن هذا الإبعاد سيكون طويل السفر شاق الرحلة ونحن نتنزه بين المعاني والمفاهيم القادحة في دعوى ذلك الثبات والاستقرار، ولا شك أن ما راكمته الذات العلمانية ممثلا في محصول أساطينها من تعاريف وتجليات يقطع علينا مشقة الرحلة ويرفع ترخص القصر في سفرنا هذا، والذي معناه هنا من باب التجوز والاستعارة تنكيس الهامة والانحناء الحاد المنزوي في تسليم هائم للطرح القائل بذلك الاستقرار في المعنى والثبات في المفهوم، وهو ثبات واستقرار نعرف ما وراء أكمة إقراره والانبهار بماهيته.
ولعل إطلالة بسيطة في دائرة ذلك التنزه في غير تفكه من شأنها أن ترفع الحرج، إذ نجد من أساطين الفكر العلماني من قعّد لها على مفهوم هيمنة القيم المادية، فيما رآها آخرون مرادفا للإلحاد بينما حصر فلسفتها آخرون في الممارسة التي يقوم استهلالها على فصل الدين عن أمور الدولة، بينما رأى فريق معناها في التأكيد الزمني والإهمال الديني والمقدس، بينما من الأطروحات من فرقت بين العلمانية الجزئية “الإنسانية والأخلاقية” والعلمانية الشاملة “المادية والعدمية”، فيما أرجح آخرون المفهوم بين الضمير والنسبية المطلقة.
هذا وقد لا يهم الوقوف على كينونة هذا الاختلاف وطبيعته أكان من جهة التنوع أم من جهة التضاد، ما دام السلوك العلماني يواطئ حاله قاعدة “لا مشاحة في الاصطلاح”، وهي قاعدة تعين في غير تحامل على الخروج من ضيق وقَدَرة تلمس مفاصل ذلك الاختلاف النظرية والنوء بحمل ركامه الفكري المتهالك، بل وتعجلنا في اضطرار وحاجة إلى الوقوف على ملمح التحولات والاستفزازات المسترسلة في السلوك والاعتساف العلماني المعاصر، وتنطلق بنا في إنصاف وتجرد لرصد الأدوات المادية والمعنوية التي تأبط بها العلمانيون في غير تقية ولا خوف ولا مداهنة في مواجهتهم للإسلام والمسلمين.
ولا شك أن التأسيس لهذا الانطلاق والتأشير على بدايته البداية الصحيحة لابد أن يكون سبيله وفلسفة السير عليه يحكمها الاعتقاد الجازم أن العلمانية ومعها العلمانيون لا مسوغ ولا مبرر لوجودهم وأنفاسهم المنفوسة إلا في المنشود أصالة ونعني به بضابط “نكون أو لا نكون” القضاء على هذا الدين العظيم، بدءا بالمواجهة المستوعبة لأركان الدين وعروة المتدينين تعطيلا للشريعة حالا والشعائر مآلا، مع واجب الاستدراك على أن هذا التحيين بين الحال والمآل أصبح يفقد مشروعه وصورته في مناسبات عديدة متكررة في اعتباط وارتجالية جهود.
وهنا لابد من الوقوف لنجعل لهذا التأسيس ونمنحه منطقه في ربط عميق بين وسائل الدفع ومقاصد النفع للأمة على أساس أن هذا الدين محفوظ من فوق سبع سماوات وأن نفعه في الأرض مسترسل في غير انقطاع ، بينما يدور الدفع في مناخ تقلب الأمة بين المرض والعافية عقابا وابتلاء وبين عسر المخاض ويسر الاستهلال المفضي إلى التمكين.
وهنا نعطف عائدين لنقف مع الخرجات المستمرأة الظهور والتكرار لبعض من سلطت عليهم أشعة النيون أضواءها وأصبغت المؤسسات الإعلامية بأضرابها على وجهه الحداثي مساحيق الأصالة والمعاصرة في نيابة يحكمها المال وتحركها المصالح المغرضة، ليترجم وأعناق جوعى السياسيين من حوله مشرئبة فلسفة مشروعه الحضاري التي تقوم على أساس مواجهة الإسلاميين، وليعطف في توجيه وتصويب لمقالة أمسه بعد حين قصير موضحا أن مقصوده هو مواجهة الإسلاميين حماية للمسلمين، وربما وجدنا تبرير اعتسافه اللفظي هذا فيما تبيّن من تسرب وإقرار منه على ضير وغصة ومضض لمستواه الدراسي المتسفل في ضحالة العلم والمعرفة.
وهب أننا تماهينا في غباء وبلادة مع هذا التخرص وغيره من الخرجات التي دأب أصحابها تحت طائلة الخوف والخشية والوجل من ردة فعل الشعوب المسلمة إلباس صفاقتهم الحرير الأخضر، والصدع بعد ذلك بكون ركزهم هو في مواجهة الظلاميين لصالح المتنورين، والغلاة المتطرفين لفائدة المعتدلين، والمتعصبين انتصارا للمتسامحين، والإسلام المحلي ضد التهريب الديني المشرقي، والإسلام الوسطي ضد الإسلام الوهابي، وحبل معطوفات التقابل والتضاد طويل الذيل مسترسل الفواصل…
وقد يغنينا ويقطع تماهينا في غباء وقوفنا على حقيقة هؤلاء الخائفين على الإسلام المدافعين عن المسلمين المواجهين للإسلاميين، وهم يمارسون شغبهم ويسجلون في صفاقة وصلف اعتراضهم على أحكام فروض وأنصبة الإرث، منقلبين على نصوص الوحي متهمين مصدر تشريعنا الأول بكونه نصا تاريخيا تجاوزه عصر الحداثة وسمت على أحكامه القديمة القوانين الكونية، مطالبين في إصرار بإسكات نداء الفجر حفاظا على راحة السائح الأجنبي وتضميدا لغول ثمالته، مسجلين استدراكهم الحقوقي على سوق الهدي في مناسبة الأضحى، مالئين الدنيا صراخا ضد استغلال مريدي سنة التراويح للملك العمومي وتعطيلهم لحركة السير، رامين فريضة الصيام بكونها جوعا يعطل عجلة التنمية ودورة الإنتاج المرجوة، واصفين الزكاة بأنها تحكم في رقاب الأغنياء وأنها مصدر من مصادر تمويل الإرهاب، معتقدين في منسك الحج بكونه وثنية وجاهلية متجددة، مزدرين لشعيرة الحجاب والنقاب مناهضين لمنقبة التعدد والزواج المبكر، واصفين سنة إعفاء اللحية وحف الشارب بكل نقيصة وبهتان، ناعتين رسائل نبي الرحمة إلى ملوك عصره بكونها رسائل إرهاب وتطرف، واصفين الفتوحات الإسلامية بكونها فتوحات حركتها نزوات المال والجنس، متهمين الوحي بكونه عقيدة مشرقية وتهريبا دينيا ومهددا حقيقيا للأمن الروحي للمواطن المحلي، متمردين على بعض التفاسير النبوية التي تغضب أسيادهم وتقدح في عدالة الأوصياء المتيمين بمحبتهم والمنيبين لقبلتهم…
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ومناسبة عند هذا الدرك، هو ذلك السؤال الذي يبحث في ماهية هذا الإسلام وطبيعة أولئك المسلمين موضوع الدفاع والرعاية والحماية التي يرفع شعارها العلمانيون في غير حياء ولا مروءة وهم يواجهون هذا الغول الهلامي الذي دأب القوم في تسميته “الإسلامي” في تفريق بغير مفرق بينه وبين المسلم، ويا ليتهم يخرجون من خدر التقية ويفصحون في شجاعة ورباطة جأش على أن المسلم المراد في طي كلامهم هو شخص على مقاس حداثي منسلخ عن كل خصيصة إسلامية على شاكلة ما تم ويتم الاستدراك عليه في غلظة وجفاء من طرف صناع الفرجة العلمانية المعاصرة بدء بحرب النساء وضجيج الدفاع عن المخنثين ووصولا إلى طرد الغزاة والرمي بدينهم في مهملات التاريخ وجبانة النسيان.
ولربما دُفعنا في حاجة وضرورة ونحن نلامس هذا المروق الزائف والإقعاد الحائف، إلى أن نستشرف في غير تمنٍّ ولا ترجٍ قرب الزمن الذي يرفع فيه بنو علمان من بني الجلدة شارة الإرهاب وتهمة الدعشنة والبغي والخروج لمجرد تسمية الرجل لإيمانه بكونه هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وتكون التهمة حينها هي مخالفة الثوابت الوطنية ومعارضة المعلوم من ديانة الحداثة بالضرورة، التي سيكون منها لا قدر الله وفي إطار ما تشهده الساحة الفكرية والتنظيرية اليوم بين صفوف العلمانيين من مقاربة مفاهيمية جديدة وفلسفة متجنية، قلت سيكون منها كفالة حقوق الملاحدة والزناة والبغايا والمرتدين…
كما سيكون فيها وصف المؤمن مستوعبا للمؤمن الصليبي والمؤمن البودي والمؤمن الملحد والمؤمن المجوسي والمؤمن العلماني والمؤمن الشيوعي…
وعندها فلا غرابة في سوق المؤمن بالله وملائكته… سوقا إلى غيابات التعزير الحداثي بتهمة الإرهاب والتعصب وتحجير واسع المعنى الإيماني والتميّز العنصري نسأل الله العفو والمعافاة.