نحتاج اليوم والفتن تترى يأخذ بعضها بتلابيب بعض أن نعود إلى قلوبنا لنصحح فيها معالم العقيدة الايمانية التي هي سبب النجاة، وحصن من الهلاك، فالذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم خصهم الله بالأمن والأمان، والهداية لأقوم طريق وأعدل سبيل لتجنب الهلكة في أحد أودية الفتن.
صلاح العقيدة صلاح للفرد والمجتمع، وفسادها سبيل لكل فساد، وهو الواقع الذي عليه ألف دليل. وإن من مقومات العقيدة الايمان أن الله خالق الكون ومالكه ومدبره، وهذا يعد أصلا في توحيد الله في ربوبيته، هذا التوحيد الذي لا ينبغي أن يخلو منه قلب امرئ مهما كان، وكما كان كفار قريش، لكن ذلك لا يكفي إلا إذا اقترن بتوحيد الألوهية والأسماء والصفات.
إلا أن توحيد الله في ربوبيته من أنكره قولا أو فعلا فقد زعم الربوبية لنفسه، صرح أو لم يصرح، واعتبر نفسه ربا من دون الله، وقد قالها من قبل فرعون -سلف كل طاغية في التاريخ- حين بلغ من الطغيان حدا لا مزيد عليه، وآنس من نفسه غرورا، واستخف شعبه فقال أن ربكم الأعلى، لما رآه من خضوع رقاب البشر لسطوته وجبروته، وأنه يفعل فيهم ما يريد دون اعتراض ولا تعقيب وبتسليم مطلق لا يفعله كثير من المسلمين اليوم مع خالق الخلق ومالك الملك ومدبر الكون، لكن مسيرة التعالي والتجبر والتكبر والتأله لفرعون لم تستمر كما ظن وخمن، وكانت النهاية مأساوية خلد الله ذكرها إلى قيام الساعة لتكون عبرة لمن يعتبر، طبعا. لكن يبدوا أن المعتبرين في هذا الزمان قليل، والمخمورون بنشوة التحكم والتوجيه لم يقرؤوا عن سيرة فرعون التاريخ، وكذلك الأشقياء تدركهم نفس نهاية أسلافهم من الطغاة والجبابرة، فإن الكبرياء والعظمة من صفات الله من نازعه فيهما عذبه وقصمه وأهلكه.
لقد كنا حديثو عهد بانقلاب موازين التخطيط والتأثير، وحدث من قدر الله المدبر للكون ما غير به مجرى الأحداث، بشكل لم يكن يخطر لأحد على بال، وإن كان من كبار المحللين والاستشرافيين، وخبراء الدراسات المستقبلية، ضاعت أوراق الخطط وتبعثرت، واختلطت السبل، وحصلت جلبة في كل دوائر صناعة القرار، وانفرط العقد من بين أيديهم، وقد كانت الوجهة نحو محو الاسلام ومظاهره من على الوجود بالتضييق والتصفية والسجن ونشر ألوان من الفساد بكل الوسائل، وكانت الخطط الجهنمية معدة لحرب قذرة على الدين والمتدينين، لكن كل هؤلاء أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب، ولم يخطر لهم على بال أن التدبير تدبير الله وأن الكون ملك الله، وأن الله من ورائهم محيط، ونسوا أنهم وإن مكروا مكرهم فعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، ولم يعلموا أن الله خير الماكرين، ولم يعرفوا أن من سبقهم مكروا مكرا وأن الله مكر مكرا فانقلب عليهم مكرهم فكانوا من الخاسرين.
إن سكرة الفعل المحدود في الزمان والمكان الذي مكنهم الله منه فظنوا أنهم هم من بيدهم الولاية والعزل، والخفض والرفع، والحبس وإطلاق السراح، والغنى والفقر…، لئن فعلوا شيئا من ذلك فإنهم لم يكونوا إلا أسبابا قضى بها الله ما قدر، فقدر الله هو النافذ الناجز يقضيه على يد من يشاء من خلقه كما يقضيه بغير سبب، إذن فليعلم هؤلاء الذين عادوا للتخطيط والتدبير في الخفاء لمحاربة الله ورسوله أن الله من ورائهم محيط وأنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وأن الله يعلم ما يبيتون، وأن مجرى الحياة يسير على وفق ما أراد الله له، لا ما يريدون هم وإن وافق ما أرادوه فإنه من تقدير الله على أيديهم، فلا أنتم تفرحون بما تدبرون ولا نحن نحزن بما يقضى الله على أيديكم، لأن مقتضى الايمان بالله أن نؤمن بقدره خيره وشره وأن نسلم ونرضى، فالله لا يفعل إلا خيرا وكل قدر الله خير، وبغير هذا لا يتحقق إيمان ولا إسلام.
لقد تغيرت أشياء كثيرة بقدرة الله في الكون، وفي عقول الناس وأفكارهم، لكن من مكر الله بأعداء دينه وشرعه لم تتغير عقلياتهم ولا زالوا يشتغلون بمنهج قديم في المكر مفضوح عفا عليه الزمن، وصار شيئا مقرفا يسخر منه العوام قبل المختصين والصغار قبل الكبار، لذلك لم يعد النصر حليفهم، وما دبروا تدبيرا إلا جعل الله فيه تدميرهم، ومع ذلك هم في غيهم سادرون غير معتبرين بالوقائع والأحداث، فقد طمس الله على أعينهم وطبع على قلوبهم، فهم لا يفقهون أن الله قال في محكم كتابه ” قل اللهم مالك الملك توتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير” فما من حركة ولا سكون إلا بمشيئته وتدبيره سبحانه، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله، فليكن تخطيطكم خيرا وتدبيركم خيرا، رحمة بكم وبغيركم فإن الله لا يصلح عمل المفسدين.