ضجيج العلمانية إلى أين؟ محمد بوقنطار

قامت العلمانية أول ما قامت في محيطنا على كذبة أن الغرض من دعوتها إلى فصل الدين عن الدولة هو محاولة بريئة منها للنأي بالدين، وطهر مبادئه، وصفاء عقيدته، ونقاوة شرائعه، وسماحة أحكامه، عن أدران السياسة، وأوحالها النتنة، وقاذوراتها المصلحية؛ وأصحابها -ولا شك في هذا- كانوا على وفق هذا الزعم والطرح الخاسئ، كمثل الذئب الذي يريد أن يفهمنا بحركات ذنبه وابتسامة أنيابه أن حومانه حول الحملان هو من باب درء الأذى عنها، ودفع الشرور التي يمكن أن تستهدف من الغنم قاصيها.
ولكننا اليوم ونحن نرى كيف أن العلمانية والعلمانيين بات يزعجهم تدين المسلمين في بلاد الإسلام، حتى صار مع هذا الانزعاج إعفاء اللحية، وتقصير الثوب، وخمار المرأة ونقابها، وكل ما يمت للعفة بصلة، إرهابا وظلامية، وانكفاء إلى الوراء، الذي ما تركوا نبزا إلا رموه به، ولا تهمة إلا علقوها على شماعة ماضيه التليد، وعلى هذا النحو والصوب لا يزال سير القوم وزحفهم في دائرة نفوذهم ودولة أمورهم، وهو سير كان ولا يزال من نافلة حسناته أنه وبالواضح لا المرموز، والتصريح لا التلميح، استطاع أن يكشف عن حقيقة معدن هذه العلمانية اللقيطة، وأنه معدن قيمته في السوق بخسة رخيصة، فقد بات معروفا معلوما من الطبيعة بالضرورة وبالكناية المقصودة أنه معدن لا تصلح مادته حتى لصنع حاويات القمامة.
وها نحن نرى، وقد طال حبل هذه الشرنقة التي جعلها الغرب وطوق بها جيد الأصيل والأصالة، نرى كيف أن هذا المنهج العلماني الغاشم قد عمل من خلال التمكين لأساطينه، ليس على تهميش مدارسة العلوم الشرعية، بغطاء صوفي، وعباءة قبورية، عمادها الفتوحات، والكشوفات، والأذواق، والأحوال، التي بوأت المجانين، والمجاذيب، والعصاة، والمذنبين، ولاية الدراية عن مراد الله، والرواية عن تبيلغ رسوله فحسب، بل أهملوا علوم الرياضيات، والفيزياء، وعلوم الأحياء، والجيولوجيا، والاعتناء بقواعد اللسان العربي المبين، وبالمقابل نجدهم قد أغدقوا بغير حساب، ورفعوا بغير حجاب من شأن الرقص والراقصات، والغناء والمغنيات، وفتحوا باب التقدير على مصراعيه، وزادوا من حجم الأغلفة المالية الداعمة لصناع الفرجة الفاسدة، والفن الأرعن، الذي صار عماد تجليه وتمثله الكلام البذيء الهابط، والحوارات المتهكمة بالدين، المستهزئة برموزه وأعلامه، والسيناريوهات العابثة المتسفلة في نقيصة الفسق، وزيادة العناد الذي ينذر بحساب قارعة توشك أن تحل بالقوم، وهو حساب قد يتأخر استدراجا، لكنه إذا حلّ وأتى فإنه يكون قاسيا مؤلما، فالله سبحانه بفضله قد يمهل، لكنه جل وعلا بعدله قد لا يهمل، وتلك سنة الله في خلقه منذ أن خلق آدم، وإلى آخر نفس منفوسة في هذه الحياة الدنيا.
وانظر بقليل اجترار كيف نافح الماركسيون، من جيل السبعينيات، عن أطروحتهم المادية، الغريبة عن البلاد المغربية والعباد المغاربة، وكم قدموا من تضحيات جسام في سبيل نوال هذه البغية المريضة، ثم أعد كرة النظر إليهم وهم في سدة الحكم، وكيف أصبح الماركسي صاحب السيارة الفارهة، والهندام الأنيق، ينظّر للرأسمالية، ويقعد للبرالية، بل الأكثر من هذا، انتقل بفكره المختمر في حشايا الوجدان، ليعيش واقعا ينضح بالإقطاعية، التي تستبيح الأرض والعرض، وتجعل الكل في حوجلة رق الخوصصة، واستعباد العولمة، فأين هذا يا ترى مما نضح به ضجيجهم من بيانات سفخوزية، وشعارات كلخوزية، تبين بالواضح والملموس أنها سلعة شفهية لا حظ لها في حياة الكثير من الذين أثبت القضاء المغربي تورطهم في سرقة المال العام، وتبذيره يمنة ويسرة؟؟
واليوم، نراهم على غير استحياء يريدون أن يحمّلوا حكومة العدالة والتنمية مساوئ حكم العلمانية المحضة، واليسارية المدخونة، مساوئ تلك التركة الموبوءة الثقيلة، التي كان عنوانها الرئيسي تخلف التعليم، وتقهقر التطبيب، وما يتفرع عنهما من خدمات ثقافية، وأخرى اجتماعية، وتراجع تابع للاقتصاد الليبرالي الفاحش، الذي لم تفلح نظريات مخططاته الخماسية والسداسية إلا في صنع فجوة عميقة، تؤرخ لتفاوت طبقي لم يشهد له تاريخ أمتنا المغربية مثيلا ولا نظيرا.
زد على هذا وأضف إليه ما عرفته الإدارة بشتى أشكالها من تفشي ظواهر الرشوة، والمحسوبية، والزبونية، وكذا انتشار البطالة، وتغول لوازمها من ارتفاع منسوب الجريمة، ولا نحب أن نفصل، وكذا الفساد السياسي النخبوي، والإفساد الأخلاقي الذي صار على الجملة والتفصيل شعار الانتقال من ظلامية الماضي، إلى نورانية الحداثة، ومن استعباد الوراء، إلى حرية تنسم الهواء.
يتم هذا الانتقال، ويصاحبه عويل السخائم العلمانية، وتباكيها على الحريات الفردية، والحقوق الكونية، التي لم تكن عند التجلي والسلوك سوى دفاع مستميت عن حق الشواذ في شرعنة زواجهم، وحق الملحد في ترجمة عدوانه على دين التوحيد باسم حرية المعتقد، وإشعال الشموع استنكارا ووقوفا في وجه أحكام الإعدام التي نطق بها القضاء المغربي في حق الذين أفسدوا الحرث والنسل، وكانوا بحقٍّ كارثةً على جنس الإنسان وحقيقة الإنسانية.
بل كان من نتائج نزعة الاستباحة التي تملكت القوم فجأة أن صارت لهم الجرأة التي بلغت ذروة فجاجتها مع ما صرنا نراه ونسمعه ونقرأه من طرح يبغي النيل من الله ورسوله ودينه سبحانه وتعالى، ويبغي درس التراث الإسلامي بدعوى أن ورقه الأصفر اصفرار تقادم قد دل أن الزمان تجاوزه وجار على محتواه، فالشريعة ومن تم الشعيرة، وبينما نرى نحن الكل بعين الإيمان أنها مصلحة لكل زمان ومكان، فالقوم وإعمالا لنظرية تاريخية النصوص أصبحوا لا يتورعون عن الصدع في شتى منابرهم بأن الكل بات متجاوزاً! كأن الله -وأستغفره وأتوب إليه على مثل هكذا كلمة- لم يحط علمه الأزلي بما نعيشه اليوم، من ضجيج حداثة وسراب معاصرة حتى نستطيع تسويغ نظرية الأصلح والأنسب لعباده ولأرضه.
ولعلنا نحتاج إلى أن نذكرهم بـ”هاء” الإضافة، وأنها للنسبة إليه، وللخلق منه سبحانه وتعالى، وهي ذكرى تجرنا إلى أن نقذف في آذانهم استشكال أن نكون من خلقه، ونأكل ونحيا من خيره، ثم نستدرك لننيب لغيره من الأنداد والأضداد التي لا تملك نفعا ولا ضرا.
إن الإسلام لم يهدم مصنعا، ولم يحجر واسع البحث العلمي، ولم يقص مجهودا، ولم يكن حجرة عثرة أمام جدوى وفائدة أيا كان مصدرها، فالحكمة ضالة المسلم، فأينما وجدها فهو أولى بها من سواه، ولقد لخص ربعي بن عامر في حضرة “رستم” رسالة الإسلام، واختزل هدفها العظيم، بقوله: “جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى عدل الإسلام وسعته”.
فالمعركة إذا بيننا وبين القوم في خندق الأخلاق والفضيلة، في مقابل ما نتعفف عن ذكره، مما تمجه الفطر وتأباه الطبائع، وكم يحز في النفس ونحن نتصفح ذلك الورق الأصفر، نرى كيف كانت الأمة قبل أن تتحكم في دواليب سُلَطِها طغمة العلمانيين المترفين، أمة قيادة، وصانعة ريادة، وذات فائدة وزيادة؛ واليوم نراها بعد هذا التسلط في ذيل الركب، تستجدي الدواء والغذاء والماء والكهرباء من جلادي الأمس، رواد الإمبريالية العالمية، الذين نراهم اليوم عادوا، ولكن ليس على ظهر دبابة، بل على ظهر قلم ومشروع إغاثة، بدعوة من أولئك الذين أرسلهم جيل الأجداد في بعثات طلابية، غايتهم من ذلك إذا عادوا إلى الوطن الأم حملوا عن الكَل، ووصلوا الرحم، وأكسبوا المعدوم، لكنهم لا عن الكل حملوا، ولا للرحم وصلوا، ولا للمعدوم أكسبوا.
فإلى الله المشتكى وعليه التكلان، وهو الذي وعد استشرافاً، ومن أصدق من الله وعدا: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *