خطوات منهجية في إعداد البحوث والرسائل العلمية (2) (شروط ومواصفات العنوان الجيد) عـبد الــعـزيـز وصــفي

تكلمنا في الجزء الأول عن أهمية اختيار الموضوع وأهم المراحل التي يتبعها الباحث في اختياره للموضوع الدروس، وأهم التحديات التي تواجهه. وفي هذا الجزء نستأنف الكلام عن موضوع له ارتباط بما سبق ولا ينفك عنه، وهو اختيار عنوان الموضوع والشروط العلمية/ المنهجية التي يجب أن تتوفر في ذلك.
وقبل الحديث عن ضوابط وشروط اختيار العنوان المناسب، وجب التذكير أولاً ببعض الإشارات السريعة المتعلقة باختيار وتحديد موضوع البحث العلمي وهي مسألة من أهم الأمور إذا لم يكن أهم موضوع في البحث العلمي؛ ذلك أن تحديد موضوع البحث العلمي بدقة منذ البداية يضمن بإذن الله بداية صحيحة وفعّالة للباحث في رحلة البحث العلمي. ويمكن للباحث بعد تحديد موضوع البحث العلمي بدقة التركيز مباشرة في العمل والقيام بكافة الخطوات التي تساعده في الاستمرار في الدراسة أو البحث العلمي.
في المقابل، عدم تحديد موضوع البحث العلمي بدقة غالباً ما يعني أن الباحث سيقضي الكثير من وقته في البحث وقراءة المصادر هنا وهناك على أمل أن تتضح الصورة له ويعرف فيم يركز في البحث العلمي، وهذا قد يضيّع عليه الكثير من الوقت، الجهد، والحماس.

أولاً: كيف يتم اختيار موضوع البحث؟
لتتمكن من تحديد موضوع البحث بدقة بإذن الله، هنالك خطوات عملية ينصح الخبراء باتباعها لتسهيل المهمة عليك. نعرضها في الآتي:
1. حدّد مجال البحث بدقة:
قم أولاً بتحديد مجال البحث العلمي بشكل عام ودقيق، فعلى سبيل المثال إذا كنت ترغب في عمل بحث علمي عن “المشاكل الأسرية في المجتمع المغربي: ظاهرة الطلاق أنموذجاً”، يمكننا القول: بأن مجال البحث العلمي هنا هو: الأسرة والمجتمع.
2. حدّد أفضل قواعد البيانات والمصادر العلمية:
لكي تتجمع لك قاعدة ثرية من المعلومات والبيانات، لا بأس أن ستخدم الأنترنت في البحث وجمع المعلومات الأولية وتصنيفها، والبحث عن آخر الإصدارات من المجلات العلمية التي تُنشر فيها الدراسات العلمية في مجال البحث الذي قمت بتحديده.
يمكنك الاستفادة من دليل البحث العلمي حيث يحتوي العديد من الروابط لقواعد البيانات و محركات البحث العلمية.
3. حدّد الدراسات الأساسية في مجال البحث العلمي:
في كل العلوم هنالك في الغالب أوراق علمية أو مصادر علمية كثيراً ما يُشار لها أو يتم الاقتباس منها (Citation) واستخدامها في الكثير من الأبحاث، مثل هذه المصادر في بعض الحالات يُطلق عليها (Seminal Work)، وتعني: دراسات ومصادر علمية كان لها أثر كبير في مجال البحث العلمي، وبالتالي، يعتمد عليها الكثير من الباحثين ويشيرون إليها.
في بحثك عن المصادر في مجال البحث العلمي الذي حددته، تعرّف على قائمة هذه المصادر المهمة والتي تعتبر أساسية في المجال وتفحّصها جيداً، ويمكن أن تصنفها حسب أهميتها بالنسبة إليك كي تستفيد منها؛ وذلك بالتعرف على المصادر الموجودة في مثل هذه القوائم وقراءتها إذا ما كانت لها علاقة بمجال البحث الذي تريد البحث فيه.
4. حدد الكلمات المفتاحية المستخدمة للبحث عن الدراسات المساعدة:
في غالبية قواعد البيانات والمجلات العلمية الحديثة المصنفة والمخزنة على الإنترنت، يتم وضع كلمات مفتاحية أو كلمات دلالية للورقة العلمية، بحيث يمكن البحث عنها بشكل أسهل. قم بحصر الكلمات المفتاحية التي تجدها في كافة الأوراق العلمية ذات العلاقة بمجال البحث العلمي المتعلق بك.
5. القراءة مع التركيز على المهم في بحثك فقط:
لا تقم بقراءة كل شيء، فمن المفترض أن تقوم بقراءة المختصر/النبذة (Abstract) أولاً لمعرفة ما إذا كانت مناسبة لك وذات علاقة بما تريد القيام به في مجالك أم لا، فإذا وجدت أنه من المحتمل أن يكون لها علاقة، قم بقراءة الخاتمة (Conclusion)، وإذا اتضح لك بعد ذلك أن هذا المصدر العلمي سيفيدك قم بقراءة بقية الورقة العلمية/الكتاب/المصدر.
6. حصر المواضيع المقترحة والاشكاليات في مجال البحث والدراسة:
أثناء قراءتك للمصادر المختلفة، قم بحصر مجالات البحث المستقبلية (FutureWork/Suggested Work) التي اقترح الباحثون في المجال النظر إليها والبحث فيها مستقبلاً، أيضاً، وقم أيضاً بحصر المشاكل المختلفة المذكورة في مجال البحث.
فمواضيع البحث المقترحة أحياناً يكتشفها الباحثون أثناء عملهم كفجوات في البحث العلمي أو أسئلة تحتاج لأجوبة، وفي أحيان أخرى تنشأ هذه المواضيع بسبب وجود قيود أو مشاكل في الدراسة الحالية أو الحاجة لدراسات إضافية لإثبات صحة الدراسة الحالية.
أثناء قراءتك للمصادر المختلفة، يفضّل أن تقوم بحصر المواضيع المقترحة للبحث والمشاكل في مجال البحث في مستند نصي مخصص، لكل منهما وضّح التالي:
• عنوان المشكلة أو الموضوع المقترح.
• مختصر مفيد يوضّح المشكلة وسبب حدوثها أو الموضوع المقترح ولماذا تم اقتراح البحث فيه (ما الفجوة هنا؟).
• المصادر العلمية التي تحدّثت عن المشكلة/الموضوع المقترح وأي من الباحثين ذكر المشكلة/الموضوع المقترح ومن غيره أشار لها أو أيّده في ما ذكره.
• الدراسات العلمية المختلفة التي حاول من خلالها الباحثين التركيز على هذه المشكلة لحلها أو التركيز على الموضوع المقترح للإسهام في تغطيته.
ابحث عن الحلول لكل مشكلة من المشاكل ووضّح الآتي:
• الحلول التي قامت بحل المشكلة أو الإجابة عليها بشكل فعّال (الحل فعّال).
• الحلول التي قامت بحل المشكلة أو الإجابة عليها، لكنها تسببت في ظهور مشاكل إضافية أو سلبيات أخرى (الحل فعّال بشكل جزئي أو غير فعّال).
• الحلول التي حاولت أن تحلّ المشكلة ولكنها لم تتمكن من حلها (المشكلة مازالت تحتاج لحلّ).
• عدم وجود أي حلول من الأساس لمشكلة ما (المشكلة موجودة لكن لم يحاول أحد حلها من قبل).
7. تحديد مشكلات البحث والمواضيع المقترحة فيه:
بعد القيام بكل الخطوات السابقة من المفترض أن تكون لديك قائمة بالمشاكل والمواضيع التي من المقترح فيها. ومن خلال هذه القائمة من المفترض أنك ستستطيع إزالة المشاكل التي تم حلها بشكل فعّال والمواضيع المقترحة التي سبقك في البحث فيها ودرسها الآخرون.
وفي الغالب إذا ما اتبعت الخطوات السابقة بشكل سليم ودقيق، سيبقى لديك عدد من المشاكل التي لازالت لم تُحلّ كلياً وربما عدد من المواضيع المقترحة والتي يمكن البحث فيها؛ لأنها تحاول إثبات شيء جديد، الإجابة على سؤال أو الوصول لمعلومة ما.
إذا ما حددت الموضوع الذي ستدرسه في البحث العلمي، ستكون الخطوة التالية لك هي تحديد سؤال البحث العلمي والخطوات التي ستتبعها بإذن الله للوصول للهدف.

ثانياً: شروط اختيار عنوان البحث
من الأخطاء الشائعة بين كثير من الباحثين المعاصرين، أن يبدأ الباحث بحثه بصياغة عنوان بلا فكرة مسبقة، ويترتب على ذلك أن يجبر نفسه على الإحساس بمشكلته البحثية وتأكيدها، ومن هنا فإن صياغة العنوان صياغة صحيحة تستلزم أن يبدأ الباحث بفكرة معينة، ثم يحدد كل المتغيرات في ضوء هذه الفكرة، ثم يصيغها في صورة معبرة وواضحة، وبذلك يأتي العنوان معبرًا عن مضمون الفكرة والمتغيرات المرتبطة بها.
العنوان هو كلمة السر التي خلال لحظات تحدد بنسبة كبيرة مصير الموضوع العلمي ومساره النهائي.. ولا يخفى على ذوي الدربة والخبرة في المجال العلمي، أن العنوان هو مطلع البحث، وهو أول ما يصافح نظر القارئ أو المتلقي، وكما يسميه البعض هو مشروع البحث، ولهذا ينبغي أن يكون جديداً مبتكراً، لائقاً بالموضوع، مطابقاً للأفكار بعده؛ فهو الذي يعطي الانطباع الأول في عبارة موجزة، تدل بمضمونها على الدراسة المقصودة بها، والعنوان الجيد هو الذي يراعي الأمور التالية:
• أولاً: أن يكون دالاً مفصحاً عن موضوعه، أي مضمون البحث، أو أن يكون جزئية من الموضوع.
• ثانياً: أن تتبين منه حدود الموضوع، وأبعاده.
• ثالثاً: أن لا يتضمن ما ليس داخلاً في موضوعه.
• رابعاً: إيحاؤه بالأفكار الرئيسة بصورة ذكية.
• خامساً: أن يكون العنوان محدداً، موجزًا ومفيدًا؛ أي: لا يكون قصيرًا مُخِلاًّ، ولا طويلاً مُملاًّ، بادئًا بالكلمات المحورية في الدراسة، دون ذكر التفصيلات، شاملاً، ومحددًا ومعبرًا عن جوانب موضوع البحث كله ومحتواه، دون زيادة أو نقصان.
• سادساً: أن لا يكون العنوان من العناوين الدعائية التي تروم الشهرة.
• سابعاً: الدراسة العلمية المنهجية تقتضي بأن يحمل العنوان الطابع العلمي، الهادئ، الرصين، بعيداً عن العبارات الدعائية المثيرة، التي هي أنسب، وألصق بالإعلانات التجارية، منها إلى الأعمال العلمية، كما يستبعد الباحث العناوين الوصفية، المسجّعة المتكلفة، التي لا تتناسب وأسلوب العصر الحديث.
• ثامناً: أن يتضمن أهم متغيرات الدراسة التي يمكن التعامل معها إحصائيًّا.
• تاسعاً: أن تكون كلماته في حدود خمس عشرة كلمة ما أمكن؛ فهو أفضل.
• عاشراً: يفضل في اختيار العنوان أن يكون مرناً، ذا طابع شمولي (جامعاً مانعاً)؛ بحيث لو استدعت الدراسة التعرض لتفريعاته، وأقسامه لما اعتبر هذا خروجاً عن موضوعه، كما أنه لو اكتشف الباحث سعته سعة يضيق معها الزمن المحدد له، لأمكن التصرف فيه بالاختصار. مثال ذلك:
لو اخترتَ موضوعاً بعنوان (حقوق الإنسان في الإسلام)، فإنه يدخل تحت هذا العنوان: التأصيل للحقوق في الإسلام، والمحافظة على الكليات الخمس، والعقوبات المقررة لمنتك الحقوق، وخصائص حقوق الإنسان ومقاصدها في الإسلام، ونحو ذلك، ولا اعتراض في بحثها، أما لو اكتشف طول البحث، وحاجته إلى فترة أطول من الزمن المقرر للباحث، فإنه بالإمكان أن يتحكم فيه بالتضييق، فيقصره مثلا على (خصائص حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية) أو (لكرامة الإنسانية في ضوء القواعد الشرعية).
وعلى العكس من هذا لو كان مضغوطاً، ضيق الآفاق والحدود من البداية، فإن أي خروج عن مداره يعد خطأ في المنهج، وابتعاداً عن الموضوعية.
ومن الضروري استشارة الأساتذة الأكفاء لإبداء آرائهم، ومقترحاتهم حول عنوان البحث لمناقشة مدلولاته، والتعرف على أبعاده، وهذا يزيد من اطمئنان الباحث في الوقوف على اختلاف وجهات النظر، وستتبدى له من خلال ذلك بعض الجوانب التي كانت واضحة في نظره في حين أنها غامضة على غيره، فمن ثم يتم تعديل العنوان قبل اتخاذ إجراءات تسجيله، واعتماده من قبل الجهة المنتسب إليها.
ولوضوح العنوان ودلالته على موضوع الدراسة بعد آخر، ذلك أنه بعد استكمال البحث وطباعته، فإنه سيصنف ضمن قوائم المكتبات، ويفهرس ضمن مجموعاتها حسب العنوان، فلا بد من التأكد من تميز كلماته، بحيث تكون مفتاحاً لمضمونه، دالة على موضوعة، تساعد على تصنيفه، وفهرسته بشكل صحيح.
وأشير في هذا المقام إلى أن الباحثين قد اختلفوا بين موافق ومعارض لضرورة تجنُّب العنوان الكلمات التي لا لزوم لها؛ مثل: (دراسة في)، أو (تحليل لـ)، وكذلك العبارات الناقصة المضللة، وأن يعكس العنوان بشكل مكثف إشكالية البحث، وأن يتضمن شيئًا عن السمة العامة لمنهج البحث ولطبيعة الأدوات المستخدمة فيه.

وقبل الانتهاء من هذا الموضوع أقدّم ملاحظتين سريعتين وهما:
الأولى: يجب على الباحث عدم استخدام الكلمات المترادفة في الرسالة، كأن تستخدم كلمة “فعالية” مثلا. فلا بد أن تستقر على استخدام هذه الكلمة في بحثك بالكامل، بحيث إنه يجب أن تتجنب استخدام مصطلح “فاعلية” مرة ومرة أخرى “فعالية” أو “أهمية” أو الكلمات التي قد تعني معاني مختلفة، فيبقى الباحث على مصطلح واحد كما حدده والتزم به في العنوان، وإن وجد مصطلحات أخرى صحيحة، إلا أن البعد عنها يوضح أن الدارس غير مشوش، أو أنه يساهم في عدم تشويش القارئ.

والملاحظة الأخرى: وهي تتعلق بالبحث، فلا بد من البعد عن الزخرفة والزركشة والإطارات الملونة والخطوط المتنوعة وما هو على شاكلته.. فالبحث أمر علمي بعيداً عن الأمور التسويقية.
وبشكل عام يجب أن يكون حجم ونوع الخطوط واحد في جميع الرسالة مع اختلاف حجم العناوين أو الهوامش، ونوع الخطوط يعود لرغبة الطالب في المقام الأول، فهو الذي يختار ما يناسب بحثه بشكل لائق ومقبول.
والله الموفق لطريق الحق والرشاد، ومنه العون والسداد، وإليه سبحانه المعاد.
والحمد لله رب العالمين.
——————————————————————
للتوسع في الموضوع تراجع المصادر والمراجع التالية:
1- جودت عزت عطوي، أساليب البحث العلمي. الأردن: دار الثقافة للنشر والتوزيع والدار العلمية الدولية للنشر والتوزيع، 2000 ، ص 66.
2- محمد عثمان الخشت، فن كتابة البحوث العلمية وإعداد الرسائل الجامعية. الجزائر: دار رحاب للطباعة والنشر والتوزيع، 1997، ص 36.
3- نورا إبراهيم غريب، خطوات البحث العلمي، دكتوراه، إشراف: د/ أحمد جابر بهاء الحجار.
4- د. عبد الرحمن عبيد مصيقر، الدليل المختصر في كتابة البحث العلمي، المركز العربي للتغذية، ط. الأولى، 2012م، ص ص: 11 – 13.
5- روبرت . أ . داي و باربرا جاستيل، كيف تكتب بحثا علميا وتنشره، نسر: الدار المصرية اللبنانية.
6- الشروط المنهجية في البحث العلمي ، والضوابط الفقهية، محمود العشري، بحث منشور على موقع الألوكة بتاريخ: 30/6/2014 م – 2/9/1435 هـ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *