ثالثا: نقد موقف ابن رشد من خلق العالم وأزليته:
وثانيا إن ابن رشد لما كان يعتقد بأزلية العالم، ودافع عنها وانتصر لها، ووجدها تتعارض مع دين الإسلام، أوّل النصوص الشرعية تأويلا تحريفيا لكي يُطوّعها ويُوظّفها لخدمة مذهبيته الأرسطية في قولها بأزلية العالم، فمن تأويلاته أنه قال: (إن الحدوث الذي صرّح الشرع به في هذا العالم، هو من نوع الحدوث المُشاهد ههنا، وهو الذي يكون في صوّر الموجودات) التي تسميها الأشعرية صفات نفسية، ويُسميها الفلاسفة صورا، وهذا الحدوث (إنما يكون من شيء آخر إلى زمان)، ويدل على ذلك قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) سورة الأنبياء: 30، و(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ) سورة فصلت: 11، وأما كيف حال طبيعة الموجود الممكن مع الموجود الضروري؟، فسكت عنه الشرع لبعده عن أفهام الناس، لأن معرفته ليست ضرورية في سعادة الجمهور)، وأما الذي (تزعمه الأشعرية من أن طبيعة الممكن -أي المخلوق- مُخترعة وحادثة من غير شيء، فهو الذي يُخالفهم فيه الفلاسفة من قال منهم بحدوث العالم ومن لم يقل، فما قالوا -أي الأشاعرة- إذا تأملته بالحقيقة ليس هو من شريعة المسلمين ولا يقوم عليه برهان).
وقال أيضا: إن الله تعالى أخبر (أن العالم وقع خلقه إيّاه في زمان، وأنه خلقه من شيء، إذ كان لا يُعرف في الشاهد مُكوّن إلا بهذه الصفة، فقال سبحانه مُخبر عن حاله تعالى قبل كون العالم: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) سورة هود: 7، وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) سورة الأعراف: 54، و(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ) سورة فصلت: 11).
وردا عليه أقول: أولا إن ابن رشد لم يلتزم بالمنهج الصحيح في فهم النصوص الشرعية المتعلقة بخلق العالم، فلم يأخذ بالمعنى الصحيح للفظي الخلق والإبداع، وأخذ منهما ما يتفق مع مذهبيته الأرسطية، ففهمهما بمعنى الإخراج والتحوّل، وليس بمعناهما الصحيح المفهوم من موقعهما في النص الشرعي، فلفظ الخلق من معانيه في اللغة العربية: إبداع الشيء على مثال لم يُسبق إليه، وإحداث الشيء بعد أن لم يكن، وإيجاد الشيء بعد أن لم يكن موجودا، ومن معانيه عند علماء الشريعة: الإنشاء والإيجاد من العدم، والابتداع على غير مثال، وإيجاد الأشياء بعد أن لم تكن.
وأما معنى الخلق في القرآن الكريم فله معنيان واضحان، أولهما إيجاد شيء من شيء، لقوله تعالى: (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ) سورة الرحمن: 14- 15، وثانيهما إيجاد شيء من غير أصل ولا احتذاء، لقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) سورة يونس: 3، فلم يقل لنا أنه خلق ذلك من مادة سابقة كما في النوع الأول، فهذا المعنى هو الذي يُسمى خلق شيء من لا شيء، بدليل قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) سورة يس: 82، و(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) سورة غافر: 68، فإرادة الله إرادة مطلقة تخلق ما تشاء، من شيء ومن غير شيء، فيندرج في هاتين الآيتين النوعان السابقان، والله تعالى أعلم بالصواب.
وأما لفظ الإبداع فمن معانيه في اللغة: الاختراع على غير مثال سابق، ويُستعمل في الشرع في حق الله تعالى بمعنى إيجاد شيء بغير آلة ولا مادة، ولا زمان ولا مكان، كقوله تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) سورة البقرة: 117، وهذا المعنى لا يُستخدم إلا في حق الله تعالى، لهذا قال سبحانه: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) سورة النحل: 17، فهذا الخلق بمعنى الإبداع الذي معناه الخلق من عدم.
لكن ابن رشد – في تأويله لآيات خلق العالم- لم يأخذ بالخلق والإبداع بمعناهما الدال على إيجاد الشيء من لا شيء حسب الآيات التي ورد فيها هذان اللفظان، وإنما حملها كلها على المعنى الأرسطي الذي يرى الخلق هو مُجرد إخراج ما بالقوة إلى الفعل، وفق عملية التكوّن والفساد في العالم الأرضي، وفعله هذا لا يصح، وهو انحراف منهجي خطير في الفهم الصحيح للشرع.