تمهيد في بيان منزلة المساجد وفضل عمارتها نور الدين درواش

انتبه يا عبد الله فإنك في بيت الله (1)

 

المساجد هي بيوت الله التي يذكر فيها اسمه، والتي شرع الله تشييدها لإقامة الجُمع والجماعات، ولذكر الله وقراءة القرآن… يقصدها المؤمن في كل صلاة مفروضة مجيبا لداعي ربه فيجد فيها الراحة والسكينة والطمأنينة والرحمة الربانية والفيوض الإيمانية، ولهذا كانت ملتقى جموع المؤمنين ومأوى أفئدة الصالحين، ومُعَلَّقَ قلوبهم ومواطن راحتهم وسعادتهم، تعمرها الملائكة وتتعاقب عليها، يباهي رب العزة أهل السماء بعمارها.

وقد ضبط الشارع دخولها بضوابط وآداب بينها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. والملاحِظ اليوم لمساجد المسلمين يسوؤه حالها ويؤلمه استهتار فئــــــام من الناس بها بتصرفات مخالفة للشرع والذوق والطبيعة السلمية.

والمرء لا يدخل مؤسسة أو بناية رسمية أو غير رسمية إلا ويتقيد بضوابط خاصة بها تختلف من مكان لآخر؛ فضوابط دخول السوق ليست كضوابط دخول مؤسسة حكومية أو ملهى أو مطعم أو مقهى..

وهكذا فإن دخول المسجد أولى بالعناية والاهتمام، فهو وفود على الله وضيافة في بيته، والضيف لا يسيء الأدب ولا يتصرف بما لا يقبله المضيف ويرضاه.

وسنحاول من خلال هذه السلسلة -بحول الله- التنبيه على ما ينبغي لبيوت الله من الأدب والتعظيم مع الوقوف على الأخطاء المنتشرة اليوم والتي فيها اعتداء على حرمة بيوت الله أو إيذاء للملائكة أو للمصلين…

وقبل ذلك؛ يحسن في هذا التمهيد الإشارة بنوع إيجاز لبعض ما يُبَيِّن مكانة المسجد وفضل عمارته وبنائه:

مكانة المساجد:

قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ اَ۬لْمَسَٰجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُواْ مَعَ اَ۬للَّهِ أَحَداٗۖ 181﴾ [الجن: 18].

اختلف العلماء في المقصود بالمساجد؛ هل هي مواضع السجود أم بيوت الله والصحيح أنها تشملهما معا “أي مواضع السجود من العالم ‌الآفاقي من الأرض ومن العالم النفسي من الجسد”([1]) 

وتدل هذه الآية على إضافة المساجد لله وفي هذا تشريف لها وتعظيم.

قال ابن عاشور:” وَالتَّقْدِيرُ: أُوحِيَ إِلَيَّ اخْتِصَاصُ الْمَسَاجِدِ بِاللَّهِ، أَيْ بِعِبَادَتِهِ لِأَنَّ بِنَاءَهَا إِنَّمَا كَانَ لِيُعْبَدَ اللَّهُ فِيهَا، وَهِيَ مَعَالِمُ التَّوْحِيدِ”([2]).

وقال ابن عطية: “«‌المساجد» ‌المخصوصة بينة التمكن في كونها لله تعالى، فيصح أن تفرد للصلاة والدعاء وقراءة العلم، وكل ما هو خالص لله تعالى، وأن لا يتحدث بها في أمور الدنيا. ولا يتخذ طريقا، ولا يجعل فيها لغير الله نصيب، ولقد قعدت للقضاء بين المسلمين في المسجد الجامع بالمرية([3]) مدة، ثم رأيت فيه من سوء المتخاصمين وأيمانهم وفجور الخصام وعائلته، ودخول النسوان ما رأيت تنزيه البيت عنه فقطعت القعود للأحكام فيه”([4]).

وهذا الذي شكا منه العلامة ابن عطية الاندلسي هو قليل إلى ما نراه اليوم من ازدراء للمساجد وعدم مراعاة حقوقها وحرمتها ولا التأدب بالآداب الشرعية فيها والله المستعان.

وقال تعالى: ﴿فِے بُيُوتٍ اَذِنَ اَ۬للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اَ۪سْمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالَاصَالِ رِجَالٞ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اِ۬للَّهِ وَإِقَامِ اِ۬لصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ اِ۬لزَّكَوٰةِۖ يَخَافُونَ يَوْماٗ تَتَقَلَّبُ فِيهِ اِ۬لْقُلُوبُ وَالَابْصَٰرُ 36 لِيَجْزِيَهُمُ اُ۬للَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِۦۖ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَّشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٖۖ 37 ﴾ [النور: 36-37].

 

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «‌أَحَبُّ ‌الْبِلَادِ ‌إِلَى ‌اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا»([5]).

قال أبو العباس القرطبي: “وقوله أحب البلاد إلى الله مساجدها؛ أي أحب بيوت البلاد أوبقاعها، وإنما كان ذلك لما خُصّت به من العبادات والأذكار واجتماع المؤمنين وظهور شعائر الدين وحضور الملائكة، وإنما كانت الأسواق أبغض البلاد إلى الله لأنها مخصوصة بطلب الدنيا ومطالب العباد والإعراض عن ذكر الله، ولأنها مكان الأيمان الفاجرة، وهي معركة الشيطان وبها يركز رايته”([6]).

الحث على عمارة المساجد والصلاة فيها:

﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ اَ۬للَّهِ مَنَ اٰمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اِ۬لَاخِرِ وَأَقَامَ اَ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتَي اَ۬لزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اَ۬للَّهَ فَعَس۪يٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ أَنْ يَّكُونُواْ مِنَ اَ۬لْمُهْتَدِينَۖ 18﴾ [التوبة: 18].

فالمساجد يعمرها أهل الاستقامة والهداية بالإيمان وإقام الصلاة وذكر الله تعالى وهؤلاء هم جيران الله يوم القيامة.

عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‌أَيْنَ ‌جِيرَانِي؟ ‌أَيْنَ ‌جِيرَانِي؟ قَالَ: فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ رَبَّنَا وَمَنْ يَنْبَغِي أَنْ يُجَاوِرَكَ فَيَقُولُ أَيْنَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ» ([7]).

واعتياد المسجد دليل الإيمان والتقوى؛ عن أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أنه كَتَبَ إِلَى سَلْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: وَيَا أَخِي لِيَكُنِ الْمَسْجِدُ بَيْتَكَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْمَسَاجِدَ ‌بَيْتُ ‌كُلِّ ‌تَقِيٍّ»([8]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ»([9]).

وعَنْ بُرَيْدَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «‌بَشِّرِ ‌الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([10]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا ‌يَمْحُو ‌اللهُ ‌بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»([11])

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، إِلَّا ‌تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ، كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ»([12]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مَنْ بُيُوتِ اللهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا ‌تَحُطُّ ‌خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً»([13]).

فضل بناء المساجد

للمسجد في الإسلام أهمية عظيمة ومكانة جليلة فهو مكان العبادة والصلاة وقراءة القرآن، وهو حاضنة التعلم والتعليم، ومجلس الصلح والقضاء، وملتقى التعاون على البر والتقوى، ومحل للتشاور بين المسلمين والتناصح فيما بينهم وملاذ الفقير والمحتاج ولهذا رتب الله أجرا عظيما على بناء المسجد.

عن عُبَيْدِ للهِ الْخَوْلَانِيَّ، يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ قَدْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ».([14]) 

(يتبع بحول الله تعالى)

([1]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور(20/489).

([2]) التحرير والتنوير(29/240).

([3]) مدينة أندلسية، ماتزال بهذا الاسم إلى اليوم وتقع جنوب شرق إسبانيا. [أنظر معجم البلدان لياقوت الحموي (5/119)]

([4]) المحرر الوجيز (5/383).

([5]) رواه مسلم (671).

([6]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي (2/294-295).

([7]) أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده (126) وأورده الألباني في الصحيحة برقم (2728).

([8]) رواه أبو نعيم في الحلية (1/214)، وأورده الألباني في الصحيحة برقم (716).

([9]) رواه البخاري(662) ومسلم (669).

([10]) رواه أبوداود(561) والترمذي (223) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2823).

([11]) رواه مسلم (251).

([12]) رواه ابن ماجه (800) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5604).

([13]) رواه مسلم (666).

([14]) رواه البخاري (533) ومسلم(318).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *