خواطِر مُستعرِب: الأصيل والدخيل في حبّ العربية والدفاع عنها سواء د.مصطفى محمد متكل

يَسَعني في دَرْبِ عربيتي المكتَسبة، ما يسع أهلَها المطبوعين، ويلزمني في فهم خطابها، وأنا المُسنَد، والمنُوطُ، والمُلحَقُ ، ما يلزم العربيَ أصيل الدوحة، عتيق الأرومة، عريق السُّلالة، فتَح عينَاه يوم فتحها على خيام البادية، ورمال الصحراء، واكتنفه أول ما اكتنفه فناؤها، وجَنابها، ومَنكِبُها، ومسّه من هبّات ريحها أول ما مسّه، الشّمال والجَنوب، والصبا والدّابور، وقرَع أذنه أول ما قرعه، حروف الضاد العظيمة، بنغماتها، وألحانها، وأجراسها، وفتحتُها أنا إذ فتحتُها في جبال المصامدة، ومرتفعات “درن” ، وحولي البحر، والجبل، والقلاع، ونبات الزعتر والشّيح، وشجر الأركان واللوز، بين قوم لا يعرفون العربية، ويحبونها الحبّ العظيم، ولا يفهمون معانيها، ويقدّرونها غاية التقدير، قومٌ أولّ ما يُلقِّنون أبناءهم، حروفَها، وكلماتها، وتراكيبَها، وأولّ ما يُربّون عليه دراريهم، القيم، والآداب، والأخلاق العربية أعني: النجدة، والإسعاف، والصدق، والمروءة، والكرم، والتضحية…
نشأتُ بينهم وفيهم، وقد حشوا كياني، وأَشربوا فؤادي الكلَف بالعربية، والتبجيل لها، والغيرة عليها، إلى حدّ يقرب من الجنون، أو ربما من “القداسة”، علّموني تقبيل الحرف العربي وتكريمه، إذا وجدته ممتَهننا في الصحائف المطروحة هنا وهناك، تتعاورها أقدام المهملين، والمحتقِرين، والمنهزمين.
كنتُ منذ وقتها أغبط العربي مطبوع اللسان على لغته، وأَنْفِس عليه ما هو فيه من عز الفصاحة وتاج البيان، وأحدّث النفس بشرف انتسابه الرفيع الذي لا يدرك، واستناده العالي الذي لا يلحق، وكنت أقول دائما في قرارة نفسي، هنيئا لمن صارت له العربية أُمّا بالولادة، والطبيعة، والفطرة، وهنيئا لمن صار لها ابنا بالميثاق، والعهد، والشرعية، وهنيئا للمستعربين العصاميين الذين لمّا فاتهم أصل اللسان ونسب العربية، جاهدوا، وناضلوا وقاوموا حتى حلّقوا كالأعراب الأقحاح الخُلّص، في سماء الفصاحة، واستووا على عرش البيان، ولا زالت بذلك التحديث، وتلك الوسوسة سنوات، أجعلها حادي في مسار التعليم، وقائدي في مراحل الاكتساب، وأنتظر كل حين متى يأذن الله بإدراك شأو هذا المطبوع، والمصير إلى درجته، فقد والله بعدت بيني وبينه الشقة، واختلفت البيئة، وتباينت الشروط، حتى دلّني بعض الموفّقين من أصحابنا، على السبيل إلى الدنو من القصد، والاقتراب إلى الغاية، ألا وهو التعويل -بعد التوكل والتفويض- على الشطارة في الاكتساب، والاجتهاد في الطلب، أما عين الوصول فهيهات هيهات، فدونه الحواجز، والموانع، والحوائل…
ثم كان ما كان ممّا أذكره ولست أبسُطه، فصرت بفضل الله ثم بفضل الإراضة والرياضة ابنا بارا بها، طيّعا لها، وصارت لي بفضل الله، ثم بفضل الكَرم والتبرّع، إِمِّيَ الرؤوم، بالاحتضان، والضمّ، والاكتناف، أُجرِي الكلام إذا تحدثتُ أو كتبتُ على مقتضى أعرافها، وأُقيمه وَفْقاً لشعوبها ومناحيها، وأضعه على شروط قواعدها، وأصول مذهبها، أخذُ بما يأخذ أهلها، وأدع ما يدعون، وأرفع ما يرفعون، وأضع ما يضعون، أشبّه بما يشبهون، وأكني بما يكنون، وأستعير بما يستعيرون، وألمح بما يلمحون، وأصرح بما يصرحون…
إذا أجمعوا حكيتُ إجماعهم، وعوّلت عليه، وإذا اختلفوا، نقلتُ اختلافهم ثم اخترتُ منه، وإذا لم أجد في كلامهم لعجزٍ، أو قصورٍ، أو جهلٍ، شاهداً أستدل به، أو دليلا أستند إليه، فزعتُ بلا حرج إلى أقيستهم وأشباههم، والتمستُ الحق عند توليدهم واشتقاقهم، فتراني ككل عربي أحمل النظير على النظير، وألحق الشبيه بالشبيه، وأضيف المناسب إلى المناسب، حتى يتأدّى لي بإذن الله المراد، وتزكو لي بتوفيق الله البُغية، ويحصل لي بعون الله الرضا.
أفهم عن العربية في الأحكام: الأسباب، والشروط، والموانع… وفي الدلائل: القواعد، والضوابط، والأصول… وفي الدلالات: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والحقيقة والمجاز… تماما كما يفهمه مطبوع الأداء، مكين الأداة، مستحكم القواعد، جامع الأصول، سليم الذوق، سلس الطبع، رفيع الاختيار، متّقد الذكاء، صحيح الفراسة، لا أخالفه أبدا في شيء، ولا أنماز عنه قطّ بخيط، إلا ما كان مني من ذات الكسب، وما كان منه من أصالة الطبع، وذاك أمر غيرُ معتبر في نفسه، ولا به ترجيح أو تفضيل، لأنه قضاءٌ من الله قديم، وقدَرٌ منه سبَق في الغيب، ليس لي فيه سعة أو اختيار، وليس له فيه بديل أو مندوحة.
ولا يعجبني قول القائل: الأصيل أصيل، والدخيل دخيل، لأنه فرقان باعتبار الخلق والنشأة، وليس باعتبار الثمرة والنتيجة، وليست العبرة في النصرة والخذلان عند العقلاء، بمعاني الأصالة والتّبع، ولا بمعاني العتاقة والحداثة، ولا بمعاني التقدّم والتأخر، وإنما بما وقع فيه التكليف، وحصل به الكسب، وتفرّعت عنه الجهود، وهو الإجادة والتمّكن، والإحاطة والتوطيد، أما غير ذلك فلا يضرّ التابع فيه تبعُه، ولا يغني المتبوع فيه أصلُه.
على أن هذا العصر، الذي سمّوه عصر المدنية والحداثة، استوى فيه في شأن هذه العربية، التابع والمتبوع، والكاسب والمطبوع، فكلهم -إلا العصبة المجاهدة- نزحوا عنها واجتووها، وقَلوها، بل نكثوا عهدها، ونقضوا شرطها، وحلّوا وثاقها، ولم يُغنهم ذلك حتى تطاولوا عليها بالإهمال، وتعظَّموا عليها بالزهد، وتشمّخوا عليها بالاستغناء، وتعدّوا عليها بالاستيعاض، وقالوا فيها القولة الآثمة الجارحة: إذا عُرّبت خُرِّبت، ثم أعقبوها بالقولة الثانية المكذوبة المأفوكة: الانجليزية لغة العلم، والفرنسية لغة الحب، والإسبانية لغة الأدب، والعربية لغة التّحنيط!!
يا ويح قومي! ثم يا ويح قومي! ألهذا القاع السحيق سقطتم؟ ألهذا المهوى العميق انحدرتم؟ ألهذه الدرجة المحطوطة هويتم؟ أبهذا الذل والعار رضيتم؟ من للعربية إن لم تكونوا لها؟ من ينصرها ويذود عنها إن لم تنصروها وتذودوا عنها؟ من يحميها ويدافع عنها إن لم تحموها وتدافعوا عنها؟ من يعيد لها الحياة، وينفخ فيها الروح، وهي كما علمتم لغة كتابكم، ونبيكم، ودينكم، وعلمكم، وتاريخكم، وحضارتكم، وأرضكم، وسمائكم، وأجدادكم، وعظمائكم، إذا أنتم رغبتم عنها، وزهدتم فيها، وتشامستم عليها؟
من يا بني قومي إن لم تكونوا أنتم؟ مَن؟
كنت أظن أن دورات الزمان، وكرّات الأيام كفيلة بتوبتكم وعودتكم، وفرط الليالي، وتصرّم الأنهُر، حقيقة بوعظكم واذّكاركم، لكن لم يزدكم المضاء، والتعاقب، والكرّ، والفرط، والتصرّم، إلا بُعدا، وخترا، ونكثا.
يا بني قومي! قد مددتُ إليكم يدي، وأدرت نحوكم طرفي، أبغي النصرة والنهضة، وأرجو النشر والبِعثة، وألتمس العون والنجدة، لكنني للأسف لم أجد أحدا، ولم أر أحدا، ولم أسمع أحدا، فآليتُ على نفسي إيلاء العهد، والخُلُق، والرَّحِم، ألا أجاريكم في تولّيكم وخذلانكم، ولا أواتيكم في جفائكم وصدودكم، وسأحفظ ما حييتُ ودّ العربية، وأذبّ ما تنفّست عن عروتها، لا أخيس أبدا عهدها، ولا أجفو أبدا جانبها، أغار عليها غيرة الأصيل على الحريم، وأذود عنها ذود الحامي عن البيضة.
لا أخرج عليها بالبدعة المهلِكة، ولا أزعم فيها بالرأي الضال، ولا أجنح عنها بالشذوذ والشرود، كما لا أخرج في شريعة الله بالبدعة، والضلالة، والجناية، ولن يضرني بعدها بقائي وحيدا.
ألملم الشعث بالضئيل، وأرقع الحال بالمسموح، وأتألّف الشوارد بالمتاح، ولن يضرني انقلاب أهلها الخُلّص وأبنائها العققة عليها، وإن كان يعزّ علي انقلابهم وعقوقهم، ولن يضرني تحيّل الجاني عليها بالأسباب والحيل، ولا قولة الحاقد فيها بالتكذّب والمين، لأنني في الدفاع عنها بمكان من الاقتناع مكين، وبمعنى من معاني التعبّد رفيع، ولأنني أعتقد أن الله عظمت حكمته، وجلّت عظمته، آثر هذه اللغة، وفضلها، وخصّها، لأمر ما جلل، وهو سبحانه لاشك معي معيّة الفتح، والنصرة، والتوفيق، والإعانة، في ما آثَر، وفضّل، وخصّ.
فهل الغيور على العربية، بعد كل هذا الاتباع، وبعد كل هذا الانضباط، وبعد كل هذا الوفاء، محقوق بالاحتفال والاحتفاء، مستأهل للتنويه والالتفات، أم ليس له في شرعة الإنصاف، وقانون العدالة، ومبادئ الحكومات، وجزاء الأقضية، إلا الإقصاء والإعراض، والجفاء والتجاوز؟!
أسألك يا ربي الكريم في دعائي، وأبتهل إليك في خلوتي، بشفيع الافتقار، والذل، والعبودية، والضعف، ألا تنزع روحي من جسدي، وألا تأذن بمغادرتي لهذه الدنيا الفانية، إلا وأنا برّ بالعربية غاية البرور، مؤدٍّ حقوقها خير أداء، رادّ شيئا من جميلها، لعل ذلك يسعفني يوم لا يسعف الرجل إلا دينه وخلقه، وإن العربية يا قومي – فاشهدوا – من ديني وخلقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *