إن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم الأسباب المفضية إليه وسد الذرائع المؤدية إليه؛ وتأبى حكمة اللطيف الخبير أن يحرم شيئا ويترك الوسائل الموصلة إليه مباحة:
لقد حرم الله الزنا وجعله فاحشة وساء سبيلا، فكان من تمام هذا الحكم أن شرع للمجتمع المسلم الأحكام والآداب التي تعينهم على تطبيقه؛ ويدخل في هذا الباب: أحكام الاستئذان والنظر والعورات والحجاب، المتضمنة فروعا كثيرة؛ كتحريم الخلوة والاختلاط والنظر المريب والمصافحة بين الأجنبيين.. إلـخ.
وإذا كان كثير من الناس يستقبحون الزنا ويستحسنون حكم الشريعة فيه؛ فإن كثيرا منهم –أيضا- لا يُطَرِّدون ذلك في الذرائع المؤدية إلى الزنا، بل إن كثيرين يعدون القول بتحريمها تشددا يتنافى مع سماحة الشريعة، وجنوحا بالتدين إلى التعسير والسطحية في الفهم والعمل!
ولا أريد في هذه المقالة أن أناقش هذا الخطأ بقدر ما أهدف إلى تسليط الضوء على ظاهرة لها ارتباط بهذا الموضوع ألا وهي ظاهرة الاختلاط الذي تأسس حكمه في الشريعة على نصوص كثيرة منها:
عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم والدخول على النساء” [متفق عليه].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها”. [رواه مسلم].
قال النووي: “إنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وذم أول صفوفهن لعكس ذلك”اهـ
وكما أن الشريعة تحظر الاختلاط، فإنها تحث على تقدير الضرورة التي قد تؤدي إليه بقدرها؛ وهكذا فالأماكن التي يتاح فيها اجتناب الاختلاط تعين اجتنابه فيها، وتلك التي يتعذر فيها ذلك؛ كالأسواق العامة وأماكن مناسك الحج والعمرة؛ تعين تقدير هذا الاضطرار بقدره ومضاعفة الحرص على باقي أحكام الحجاب؛ من غض البصر واجتناب الخضوع بالقول والضرب بالأرجل ووجوب استكمال شروط الجلباب الشرعي..
ومن أهم المجالات التي تجب مراعاة أحكام الشريعة في تحريم الاختلاط فيها: مؤسسات التعليم.
نظرية (فرويد) والتقليد الأبله
لقد راهن الغرب في موضوع العلاقة بين الجنسين على النظريات والفلسفات الإباحية؛ ومن أشهرها نظرية اليهودي (سيجموند فرويد) (م. 1939) القائلة بأن سلوك الإنسان يرجع إلى دافع وحيد منذ ميلاده إلى موته؛ ألا وهو الدافع الجنسي! وزعم أن الصحة النفسية تستلزم تحرير ذلك الدافع من كل قيد ديني أو غيره!!
ومن هنا دعا إلى فتح أبواب العلاقة بين الجنسين على مصارعها، وتنشئة الذكر والأنثى -منذ الصغر- على الاختلاط الحر والمطلق، وهو ما طبقته المجتمعات الغربية واستنسخته المجتمعات الخاضعة لسلطانها الفكري والثقافي، ومنها مجتمعاتنا الإسلامية التي نجح المستغربون فيها في توجيه السياسات بمقتضى تلك التصورات والقناعات.
وقد كان لهذا التقليد الأبله تجليات كثيرة؛ منها: تفشي ظاهرة الاختلاط في التعليم وغيره.
والعجيب أنه في الوقت الذي يتراجع فيه الغرب عن الاختلاط بسبب سلبياته المؤثرة، وفي الوقت الذي يعاني فيه تعليمنا من مشاكل جذرية خطيرة جعلتنا في آخر الترتيب؛ تصدر المذكرات وتتوالى التوجيهات بضرورة الحرص على التعليم المختلط وإلزام المدرسين بإجلاس الذكور بجانب الإناث!!
الغرب يتراجع عن الاختلاط
أجل؛ عقلاء الغرب شهدوا بأن تجربة التعليم المختلط تجربة فاشلة، ولذلك تتزايد صيحاتهم لاعتماد التعليم المنفصل؛ فهذا (كينيث بيكر) وزير التعليم البريطاني الأسبق يعلن أن بلاده بصدد إعادة النظر في التعليم المختلط بعد أن ثبت فشله، ونشرت جريدة (المسلمون) في عددها رقم (118) عن أحد أعضاء لجنة التعليم بالبرلمان الألماني (البوندستاج) أنه طالب بضرورة الأخذ بنظام التعليم المنفصل، لأنه تبين من خلال مجموعة من الدراسات والأبحاث الميدانية التي أجريت في كل من مدارس ألمانيا الغربية وبريطانيا انخفاض مستوى ذكاء الطلاب في المدارس المختلطة واستمرار تدهور هذا المستوى.
وعلى العكس من ذلك، تبين أن مدارس الجنس الواحد يرتفع الذكاء بين طلابها، وذكرت الدكتورة (كارلس شوستر) خبيرة التربية الألمانية أن توحد نوع الجنس في المدارس يؤدي إلى اشتعال روح المنافسة بين التلاميذ، أما الاختلاط فيلغي هذا الدافع.
أما الدراسة التي أجرتها النقابة القومية للمدرسين البريطانيين فأكدت أن التعليم المختلط أدى إلى انتشار ظاهرة التلميذات الحوامل سفاحا وعمرهن أقل من ستة عشر عاما، كما تبين ازدياد تناول حبوب منع الحمل في محاولة للحد من الظاهرة دون علاجها علاجا جذريا، كما أثبتت الدراسة تزايد معدل الجرائم الجنسية والاعتداء على الفتيات بنسب كبيرة، وأوضحت الدراسة أن هناك تلميذا مصابا بالأيدز في كل مدرسة، وأن السلوك العدواني يزداد لدى الفتيات اللائي يدرسن في مدارس مختلطة.
أما الدراسة التي أجراها معهد أبحاث علم النفس الاجتماعي في بون فذكرت أن تلاميذ وتلميذات المدارس المختلطة لا يتمتعون بقدرات إبداعية، وهم دائما محدودو المواهب قليلو الهوايات، وأنه على العكس من ذلك تبرز محاولات الإبداع واضحة بين تلاميذ مدارس الجنس الواحد.
ومن هنا ألف (بفرلي شو Beverley Shaw) أحد التربويين المرموقين في بريطانيا كتابه (الغرب يتراجع عن التعليم المختلط) عدّد فيه مفاسد هذا النوع من التعليم، ودعا البريطانيين إلى الرجوع إلى ما كانوا عليه حتى الستينيات من القرن العشرين من التعليم المنفصل..
أما بعد؛ فإن من المؤكد أن الفشل الذي يعاني منه التعليم عندنا، والذي شهد به الوزير المعني نفسه، يلعب فيه الاختلاط دورا كبيرا؛ ذلك أن هذا الاختلاط المطلق، من أهم البواعث على تحريك الميل الفطري بين الفتى والفتاة، ولا يخفى ما في ذلك من أثر مدمر للأخلاق والفضائل، ومن جلب للأمراض النفسية، وتعطيل للمواهب الفكرية، لأن الدافع الجنسي إذا أثير احتاج إلى تلبية، فإما الإفضاء الفوضوي بمفاسده المدمرة، وإما الكبت؛ وهو عقدة لا شعورية تعد مبعثا للأمراض النفسية، ومنهج الإسلام فيما يتصل بهذه الناحية أنه يضع الضوابط المانعة من إثارة الدافع الجنسي، وما دام الدافع لم تحدث له أي إثارة فإنه يظل ساكنا، حتى يلبى في زواج مرتقب هادف، ولكي يظل ساكنا، فلم يسمح الإسلام بالاختلاط.
إن التعليم المختلط قضى على مواهب أكثر تلامذتنا ونزل بهممهم إلى التعلق بمطالب شهواتهم؛ فلا نستغرب بعد هذا أن يحتل الطلبة المغاربة المرتبة دون المستوى الضعيف في الرياضيات والعلوم وفق أكبر تصنيف عالمي حول الاتجاهات الدولية في دراسة العلوم والرياضيات التي تجريه جامعة (بوستن) كل سنة؛ المعروف ب: “TIMSS2008”..
فهل آن الأوان لتخليص تعليمنا من هذه الآفة؟ واتخاذ القرارات التي تخدم مصالحنا بعيدا عن إملاءات غيرنا وأمراض بني جلدتنا..؟