لو كانت قضية المساواة في الإرث خطأ من طالب أو سقطة من باحث أو زلة من عالم مستوفاة شروط الاجتهاد وقواعد الاستنباط والنظر في مآلات خطاب الشرع وفعل المكلف، لاحتاج الأمر إلى مجرد رد فقهي تأصيلي يناقش الأدلة ويدحضها واحدة واحدة، ثم يثبت الصواب محل الخطأ، ولكن الأمر أخطر من ذلك؛ إنه جزء من مخطط كبير يحيط بالشخصية المسلمة من كل جوانبها العقدية والأخلاقية والتربوية والأسرية والمالية والفنية وغيرها، وكلها تعود لأصول فكرية وفلسفية تُكسب المخطط (مشروعيته) الحضارية والثقافية!
فقد جاء في إعلان الاستقلال الأمريكي لسنة 1776م ما يلي: “خُلق الناس سواسية، ومنّ عليهم خالقهم بحقوق لا تسلب منهم، من بينها: الحياة والحرية وطلب السعادة”، و الإعلان بهاته الصيغة له أسبابه التاريخية من حروب وظلم واحتلال وغيره، وله مبرراته الاجتماعية من عنصرية وتمييز وغيره.
ولما تم هذا الإعلان كان الوضع في حاجة إلى بناء فكراني (إيديولوجي) يقطع مع همجية القرون الوسطى في أمريكا وأوربا. ولذلك ظهر الخطاب الفكراني الماركسي الأرثودكسي والخطاب النسواني الأنجلوسكسوني؛ الأول يرى أن الأسرة بنية يسترق فيها الرجل المرأة ويحتكر فيها الآمرية، والثاني يرى أن “الفروق التناسلية العضوية بين الرجل والمرآة من ذكورة و أنوثة لا اعتبار لها، وأن الفروق بين الأدوار الاجتماعية القائمة على هذه الفروق التناسلية ليست طبيعية، وإنما هي ثقافية وتاريخية فيها من التحكم بقدر ما فيها من الاستلاب، ولكي تزول هذه الفروق في الأدوار المستندة إلى الذكورة والأنوثة، لابد من القيام بثورة لإزالة الطبقات الجنسانية، وينبغي أن تتولى هذه الثورة الجنسانية الطبقة المسحوقة منها، وهي النساء” (روح الحداثة، ص 111، طه عبد الرحمن).
ومن يقوم مقام النساء من الذكور. فتم نقل النزاع من صراع طبقي بين الأغنياء والفقراء، بين الأسياد والعبيد، بين البيض والسود، بين السكان الأصليين والمحتلين إلى صراع بين المرأة والرجل، بين الآنثى والذكر.
ومن ههنا ظهرت المطالبة بالمساواة بين الذكر والأنثى -بعد تجاهل النزاع الحقيقي- في كل المجالات؛ في السياسة والاجتماع والاقتصاد والرياضة، وفي تسريحة الشعر ونوع اللباس، وفي أنواع العطور ومساحيق التجميل، ومنها المساواة في أنصبة الإرث الذي دعا إليه (النوابغ) عندهم و(المرقة) عندنا.
بعد أن وقفنا على مسار المطالبة بالمساواة وبيّنا أصوله الفكرية والفلسفية، بقي أن يقال: إذا كان هذا مسار المساواة في الدول الغربية (الكبرى)، فما دخل المطالبة بالمساواة في أنصبة الإرث بين الذكر والأنثى في بلداننا؟
في السنوات الأخيرة كثُر آستهلاك هذا التعبير (الكونية) نسبة إلى الكون وهو كل ما يحيط بنا، وهو بخلاف (الخصوصية)، ويعني في سياقه التداولي أن تتوحد المبادئ والقيم والقوانين والأسس وغيرها عند كل البشر؛ بحيث تصبح كالكون الذي ننتسب إليه جميها بنفس القدر، فلا يقبل مخالفتها ولا يجوز معارضتها. غير أنه لم يتبادر إلى أذهاننا هذا السؤال: إذا كانت الكونية تعني النظر الموحد للقيم والمبادئ والقوانين، وتعني إعمال قانون عقلي واحد في إدراك الأصل والحياة والمصير أو الغيب وفهمهما، فهذا النظر نظر من؟ وهذا القانون العقلي هو قانون من؟
لا يحتاج الأمر إلى جواب مكتوب، بل يكفي أن ننظر إلى الكرة الأرضية لنكتشف صاحب النظر الموحد والعقل الوحيد الذي يمثل نموذجا للكونية. غير أن “كثيرا مما يوصف بالكونية لا ينطبق على الأمم كلها بهذا المعنى، فضلا عن أن تتساوى في هذا الانطباق؛ إذ حقيقة أمره أنه عبارة عن خصوصية أمة بعينها عُممت على الأمم الأخرى طوعا أو كرها، والتعميم الطوعي يحصل في حال التكافؤ الثقافي أو الفكري بين الأمتين المنقول منها والمنقول إليها… والحال أن الأمة الإسلامية في سياق أنواع الاستعمار التي ما فتئت تتوالى عليها، تظل مكرهة على الأخذ بخصوصية المستعمر وعلى النظر إليها على أنها كونية تلزم الأمم قاطبة” (الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، ص 27، طه عبد الرحمن).
ولم تسعى الدول الكبرى على فرض نموذجها على كل الأمم واعتباره نموذجا كونيا وحيدا لا ثاني ولا ثالث ولا رابع له؟
سبق معنا في البداية أن و.م.الأمريكية تسيطر على نصف ثروات العالم، ولولا هذا النموذج الذي تزعمه وحيدا في الفكر والثقافة والسياسة والإعلام…لما استطاعت أن تسيطر على هذه الثروات؛ إذ كلما آمنت الشعوب والأمم بصدق هذا الزعم واعتبرت هذا النموذج نموذجها المنقذ من الضلال والتخلف والظلم والجهل، كلما قلت مناعتها ورفضها النفسي للمحتل، فتسهل السيطرة على الثروات وتقل المقاومة والممانعة أو قد تنعدم!
يبدو الآن أن لا أحد يجد صعوبة في تبيُّن العلاقة بين مسار المساواة عندهم، والمطالبة بالمساواة بين أنصبة الذكر والأنثى في الإرث عندنا. بل إن هذه القوى الكبرى الداعية إلى نموذجها الوحيد في الفكر والأخلاق والقانون والسياسة وغيره، تدرك عامل العقيدة في تماسك وقوة الشعوب التي فرضت عليها نموذجها الكوني ذاك؛ وهي بذلك تحقق هدفين بمخطط واحد، الأول: استمرار الهيمنة والاستفادة من ثروات هذه الأمم والشعوب، والثاني: تراجع نسبة التدين عندها هذه الشعوب وانسلاخها من عقيدتها، ما يضمن لها عدم القدرة على النهوض مرة أخرى…