كتب التاريخ بمداد العفة والطهر، أن فتاة سنية إيرانية لم تكمل عقدها الثالث تقدمت واثقة الخطى، ووقفت شامخة الرأس واستقبلت الموت الزؤام راضية، واختارت عفافها وطهرها على العيش في عالم مسعور بالشهوات والنزوات، كما كتب التاريخ أيضا أن دولة تسمى إيران قررت بكل أجهزتها أن تنتقم من تلك الفتاة لتنضاف لسجل الجرائم الحافل لنظام الملالي، وهي تشكل استمرارا فظا لمسلسل واسع ورهيب من الانتهاكات ضد الإنسانية استمرت لأكثر من ثلاثة عقود.
تلك هي قصة الفتاة الإيرانية المهندسة الشهيدة -بإذن الله- «ريحانة الجباري» ذات 26 سنة التي قضت في سجن إيران سبع سنوات قبل أن يتم إعدامها بتهمة قتل ضابط مخابرات شيعي يدعى: «مرتضى عبد العلي سربندي»؛ حيث حاول هذا الضابط اغتصابها وانتهاك عرضها، فشجت رأسه في فورة من الدفاع المشروع عن الدين والنفس والعرض والكرامة لقتله باعتباره فاسدا ومارقا ومغتصبا.
وكان ذلك في يوليو 2007؛ إلا أن الجهاز القضائي في إيران كانت له وجهة نظر أخرى تمثلت في الوقوف مع الجاني ضد الضحية، وإصدار حكم الإعدام الجائر رغم كل المناشدات الدولية والمنظمات الحقوقية التي ضرب بها نظام الملالي عرض الحائط؛ فتم تنفيذ الحكم يوم 24 أكتوبر 2014، وقد أثار هذا الحكم الذي صدر مع مطلع العام الهجري الجديد حفيظة نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، الذين عبروا عن سخطهم واستيائهم مما حصل من جريمة لا يقبلها من كانت في قلبه ذرة من إيمان.
فالكل عبر عن حزنه الشديد تجاه الحدث، وشارك الكثير في نشر الخبر والتعليق عليه سائلين المولى عز وجل لتلك الشهيدة بالرحمة والغفران وأن يسكنها فسيح جناته، وهي فاتحة خير لها وهو ما يدل عليه الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن :(النبي صلى الله عليه وسلم: «مرّ بجنازة فأثنوا عليها خيراً» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مرّ بجنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت. فقالوا: ما وجبت يا رسول الله؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار أنتم شهداء الله في أرضه).
وحق للجميع أن يطلق عليها شهيدة العفة والطهر، فقد لاحظت كما لاحظ الكثير تلك المشاركات الجمة التي شارك فيها خلق غفير، ما دل على أن اختنا رحمها الله لها محبة في قلوب أهل السنة، وراقت لي تلك الرسالة الأخيرة التي كتبتها بكثير من الكلام الذي يعجز الكثير منا عن تحقيقه والتضحية في سبيله، فجاء في مطلعها :«عزيزتي شوليح، علمت اليوم أنه قد جاء دوري لمواجهة القصاص. لقد وصلت للصفحة الأخيرة من كتاب حياتي، ولكني لم أحظَ بفرصة تقبيل يدك ويد أبي.
لقد سمح العالم لي أن أعيش 19 عاماً، ثم جاءت تلك الليلة المشؤومة، التي ربما كان يجب أن أقتل فيها ويلقى جسدي في ركن قصي. وكانت الشرطة ستعرض جثتي عليك للتعرف إليها، وكنت ستعلمين بأنه تم اغتصابي وقتلي، وإن القاتل لن يستدل عليه، لأن لا حول لنا ولا قوة. ومن ثم كنت ستقضين حياتك في معاناة وعار مما ارتكبت.
لقد علمتِني يا أمي، يا أعزّ أم، أن أحدنا يأتي إلى هذا العالم لاكتساب الخبرات. وتعلمت منك أن علينا أحياناً القتال، وأن علينا أن نثابر، لكي نخلق قيمة لنا، حتى لو كان ذلك يعني الموت. وعلمتني أنه عندما أذهب إلى المدرسة ينبغي أن أكون متعالية على النزاعات والشكاوى. وعندما تم تقديمي للمحاكمة، بدوت وكأنني قاتلة بدم بارد ومجرمة بلا رحمة لأنني لم أذرف الدموع ولم أتسوّل العطف، حتى أنني لم أبك، فقد كنت واثقة من حقي ومن القانون. ولكن واجهتني تهمة عدم المبالاة، وكم كنت ساذجة بتوقعي العدالة من القضاة!».
واستأنفت قائلة: «العالم لم يحبنا يا أمي، وأنا الآن استسلم لذلك واحتضن الموت، لأنني في محكمة الله سوف أقوم باتهام المفتشين وقضاة المحكمة الذين آذوني في يقظتي ومنامي. في العالم الآخر، إنه أنا وأنت من سيوجه التهم لهؤلاء، وسننتظر لنرى ما يريده الله.. أنا أحبك يا أمي».
لا أعرف مدى قدرة أم ريحانة على الصبر، وما كنت ثاويا أمامها وهي تقرأ هذه الرسالة، ولكن أعرف أنه كانت تغمرها الدموع اليائسة، دموع أم تودع بنتها إلى الموت، وأكاد أجزم أن لغة الروح تناثرت في تلك الرسالة، ستغض الأم من طرفها قائلة بنبرة تخنقها العبرات: ليتهم أعدموني معك أو نيابة عنك.
فأصعب موقف أن تتحدث في شخص قد مات بقوة القرار الذي لا تملك له دفعا، أما إذا كان فلذة كبد فلا أصدق أن في طوق المرء أن يتحمل النظر إليه أكثر من مرة.
هكذا مشت الشهيدة -بإذن الله تعالى- ريحانة في درب الأباة والخلود، ولعلها معادلة في غاية الغرابة أن تعدم لكونك دافعت عن عرضك من مغتصب أشر ومجرم ودنيء، وأن يقتص القضاء الظالم من الضحية ويدافع عن الجلاد، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب، فأثناء مثولها أمام القاضي قال لها: لماذا قتلتي الرجل؟
فقالت: دفاعا عن شرفي.
فرد عليها: هذا ليس مبرر للقتل.
فقالت له: لأنك لا تعرف معنى الشرف.
فكان ما كان من الحبس بتهمة إهانة المحكمة، ولو صدقوا لكرروا الجواب الصحيح المتضمن لبيان التهمة: (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) وبالتالي فقد دفعت «ريحانة الجباري» بشجاعة وإصرار وإباء ثمن دفاعها عن طهرها وعفافها في وجه قوم لا يعرفون للطهر معنى، وستظل أيقونة نضال المرأة الإيرانية الحرة المدافعة عن طهرها في مقاومة عصابة لا تعرف الطهر.
رحم الله ريحانة الجباري وتقبلها في الشهداء، وجمعنا بها في الجنة.