لم يعد يخفى على أحد المنهج الحربائي المتسم بالنفاق والمكر الذي أصبح يسلكه العلمانيون بعد انهيار كل أطروحاتهم في محاربة الدين في المغرب، والانقلاب على مؤسسة إمارة المؤمنين بالسلاح بعد الخروج عليها بالأقلام والألسن.
فبعدما باءت كل محاولاتهم التصادمية بالفشل، انتهجوا سبيل الركوب على مقومات الهوية والدين للإجهاز عليها في صورة بشعة من الخديعة والغش، إخلاصا منهم لمبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، ففي الوقت الذي يتطاولون فيه على الدين ويروّجون لكل انحراف عقدي وشذوذ سلوكي وهذيان فكري عبر كل منابرهم، تراهم يقومون مقام الناصح الأمين رافعين شعار المصلحين، مدعين الذود عن الثوابت الدينية والوطنية للمغاربة، متظاهرين بالخوف على ماضي المغرب وحاضره ومستقبله من أن تمسه أيدي الوهابيين والأصوليين، الذين هم في نظرهم: كل من يأبى فصل الدين عن الدولة، سواء شارك في اللعبة السياسية أم لا، وكل من يطالب بتفعيل دور العلماء على جميع المستويات دون استثناء، وهذا واضح من تصنيف كاتب جريدة “الأحداث” لكل من جريدة السبيل والتجديد والمحجة في خانة المنابر التي تروج للأصولية والتطرف، حيث صرح بذلك في معرض أمره لوزير الأوقاف بالإصغاء لمتطلبات إصلاح الاختلالات التي عرفتها إعادة هيكلة الحقل الديني، واعتبر أن أولها حصل في “بنية تأطيرها التي تتكون من مجالس علمية محلية وفرعية، وإذاعة وقناة محمد السادس، وتلفاز المساجد، التي تُسوّق في الجملة خطابا لا يرقى إلى الطموح المنشود، بل ويسقط في أحايين كثيرة في الترويج لفكر التطرف، لدرجة لا نلمس الفرق بين خطاب هذه البنية وخطاب آخر تروجه منابر من قبيل “التجديد” و”المحجة” و”السبيل”..”انظر الأحداث عدد 3286.
فما حقيقة دفاع العلمانيين عن إمارة المؤمنين والبيعة والمذهب المالكي والتصوف؟
وهل أصبحت إمارة المؤمنين ذريعة للتيارات العلمانية لبسط هيمنتها على الحقل الديني؟
ولماذا يطالبون بإقصاء أتباع التيارات الإسلامية من الحقل الديني؟
العلمانيون والدفاع عن إمارة المؤمنين
لا يكاد يخلو مقال للكاتب -الذي أناطت به جريدة الأحداث مهمة مراقبة الحقل الديني والضغط على وزير الأوقاف حتى يشتغل على عناوين علمانية في عملية تدبير الشأن الديني-، من التمسح بإمارة المؤمنين متباكيا عليها مظهرا للقراء أن قناعات المؤسسة الملكية وسياسة العهد الجديد في حكم البلاد تصدر من مرجعية علمانية صرفة، حيث نراه يصرح في تلبيس مكشوف: “..نعتقد أن المسؤولية السياسية لوزير الأوقاف في تدبير الشأن الديني والتي تمتد نظريا على الأقل، إلى المجالس العلمية ورابطة العلماء، ينبغي أن ترعى هذه المراجعة، حتى لا يتم إنتاج سياقات متضاربة، تمس بوظيفة إمارة المؤمنين، الإطار الجامع لمشروعية الدولة الدينية..”. الأحداث 6 فبراير 2008 عدد 3286.
فهل يريد الكاتب ومَن وراءه إيهام القراء أنهم مع قيام الدولة الدينية التي يعتبرها كل العلمانيين تتناقض مع أسس الديمقراطية بالمفهوم الغربي الذي يَركن الدين بعيدا عن مجالات الحياة؟
أم أن الأمر كما قلنا هو مجرد ركوب على إمارة المؤمنين من أجل الإجهاز عليها في وقت لاحق، عندما تنضج الظروف في المغرب وتسمح بإعلان نظام علماني شامل، كما وقع للخلافة العثمانية في تركيا؟ وهذا عين ما ينظِّر له محمد عابد الجابري عندما يدعو إلى نظريته في تبيئة التربة والمناخ في المغرب حتى يقبل بالعلمانية نظاما للحكم.
ألم يرفع العلمانيون سنة 1996 إلى الملك الحسن الثاني مذكرة يطالبون فيها بإعادة توازن السلطات بين الملكية والبرلمان حتى ننتقل من نظام يحكم فيه الملك ويسود إلى نظام شبه جمهوري تحكم فيه الأحزاب العلمانية في المغرب، تتمكن في ظله من فرض علمانيتها على المغاربة؟
إن العلمانيين يعلمون أن إمارة المؤمنين والبيعة هي مصطلحات لا تنتمي إلى القاموس العلماني، بل هي مفاهيم إسلامية تنظم علاقة تربط بين مؤمنين موحدين، تفرض عليهم السمع والطاعة في المنشط والمكره مع النصيحة، وإنكار المنكر والأمر بالمعروف عند الزلل والشطط وفق الضوابط الشرعية، وبين ولي للأمر أوجب الله عليه العمل بما يحبه الله ويرضاه وبما لا يخالف دينه وشريعته.
فكما يستحيل أن يكون هناك رئيس بلا شعب، فكذلك لا يُتصور وجود للبيعة ولا لأمير المؤمنين دون وجود مواطنين مؤمنين بالله الذي أوجب عليهم بيعته وطاعته.
إذاً فتباكي العلمانيين على البيعة وإمارة المؤمنين مع إصرارهم على علمنة الحكم في المغرب، ما هو إلا مناورة تقتضيها صعوبة الإجهاز عليها، الشيء الذي يدفع العلمانيين إلى محاولة اختراقها، وهذا واضح من اقتراح كاتب الأحداث “اللماغي” إقحام بعض العلمانيين ضمن بنية تأطير الحقل الديني بوصفهم أصوات مستنيرة حيث قال: “بنية هذا التأطير، ما زالت تناصب العداء لأصوات الإصلاح بمختلف مشارب مواطنتها، مازال هناك سعي لتبقى إمارة المؤمنين غطاء للأصولية.. إنه من غير المفهوم عجز هذه البنية عن استيعاب أصوات من قبيل الدكتور إدريس حمادي، ويوسف احنانة، وسعيد لكحل، وحسين الإدريسي.. وأصوات مستنيرة أخرى؟”. الأحداث 6 فبراير 2008 عدد 3286.
فكاتب المقال “اللماغي” يحرص على محاصرة وزير الأوقاف وإجباره على تمكين العلمانيين من هذا التأطير، تماما كما فعل المرابط الاشتراكي مع الوزير السابق المدغري، والذي سبق أن اخترق تأطير الحقل الديني، مما يجعل الظن راجحا أن اللماغي ما هو إلا المرابط نفسه الذي كان يحاصر المدغري من خلال جريدة الأحداث نفسها وفي الركن نفسه “على مسؤوليتي”، وبالمنهج نفسه “الركوب على إمارة المؤمنين والبيعة والمذهب”، مما يجعل التساؤل يكبر حول مصير الحقل الديني الذي أصبح يتلون بألوان العلمانية يوما بعد يوم، ويبتعد عن حقيقة وجوهر الدين الإسلامي ساعة بعد ساعة بفعل اختراقاتها له.
العلمانيون والمذهب المالكي والتصوف
لا يبالي العلمانيون بالتناقض الذي يعتري تحليلاتهم أو تصريحاتهم، ومخالفة أسس العلمانية التي يدينون بها ما دامت المرحلة تقتضي التناقض والمخالفة خصوصا وأنهم متأكدون من هيمنتهم على الصحف والإذاعات والتلفازات التي يمكن أن تفضح مخططاتهم.
ويتجلى هذا التناقض والمخالفة للأسس العلمانية في كون هذه الأخيرة لا تعترف بالدين كنشاط للدولة، بل تعتبر التدين حقا من الحقوق الفردية فقط، ما لم يتعارض هذا الحق مع علمانية الدولة (كما وقع في فرنسا وتركيا العلمانيتين في قضية الحجاب)، الشيء الذي يجعلنا نخلص إلى طرح التساؤل حول حقيقة دفاع العلمانيين عن المذهب المالكي والتصوف.
فما هي هذه الحقيقة؟
معلوم أن المذهب المالكي في المغرب كان مصدرا للتشريع والقضاء وكان يحكم تصرفات المغاربة في البيع والشراء، وكان مرجعهم في الحلال والحرام، بينما كان العرف المتفرع عنه يضبط المجال الاجتماعي، أي باختصار كان المذهب هو المؤطر لحياة المغاربة، وبعد عقود من الاحتلال وما استصحبه معه من علمانية مكن لها في كل دواليب الإدارة، وبعد التخلي عن المذهب المالكي بعد الاستقلال على كل المستويات إلا ما تبقى من سدل في الصلاة وبعض من أحكام الزواج، أيقن العلمانيون أن الدفاع عن المذهب لا يشكل خطرا عليهم ما دام لا أثر له في الواقع، فأصبحوا يستخدمونه كورقة سياسية للضغط على الدولة كي تحارب الملتزمين بالسنة بدعوى أنهم وهابيون خارجون عن المذهب، وكأن العلمانية هي قول مالك وابن القاسم وسحنون.
من هذا يتبين أن الدفاع عن المذهب المالكي من طرف العلمانيين هو آلية من آليات الدفاع عن العلمانية لا غير.
أما دفاعهم عن التصوف فلكونه إلى جانب الخرافات والبدع وإلغاء دور العقل والبعد عن صفاء المنهج، أصبح في الزمن الحاضر يروّجُ للأسس العلمانية من تسامح مع اليهود المغتصبين، والأمريكيين المحتلين، الشيء الذي يخدم مصلحة العلمانيين ومشروعهم، وهذا ما جعل “بيرنارد لويس” -وهو من أكبر أعداء الإسلام- يدعو حكومة بلاده إلى العمل على دعم التصوف والزوايا في البلدان الإسلامية، وذلك في المؤتمر الذي عقد في مركز (نيكسون) في أمريكا في الرابع والعشرين من أكتوبر عام 2003م تحت عنوان (فهم الصوفية والدور الذي ستلعبه في رسم السياسة الأمريكية) وقد أعلن المنظمون لهذا المؤتمر أن الهدف منه هو تقديم (الإسلام الوسطي) أو (الإسلام الثقافي) لصانعي القرار والأكاديميين في أمريكا.
وبهذا يتبين لنا لماذا يدافع العلمانيون عن إمارة المؤمنين وعن المذهب المالكي والتصوف، ومنه نعلم الحقيقة المضمرة وراء كلمات اللماغي أو المرابط التالية:
“إن الأفق الإصلاحي لسيدي محمد بن الحسن، روح القدس معه، يستوجب في الحقل الديني، خلق جبهة عريضة من الإصلاحيين، من علماء متنورين وزوايا ومثقفين وإعلاميين..” الأحداث 6 فبراير 2008 عدد 3286.