ذلك أن القوة الجسدية، أو القوة العلمية، أو القوة الوظيفية، أو القوة المالية، أو القوة النَسَبِيّة، لا شأن ولا معيارية لها ولا اعتبار متى ما غابت الأمانة ومات الضمير، وغاب ما اندرج تحت جنس الالتزام والتكليف من أنواع عفة وكرامة ومروءة وصدق وصبر وتضحية وإيثار يرجح الصالح العام على المصالح الشخصية الضيقة، وإنها لعملة نادرة وكبريت أحمر في زمن تجرأ فيه المترفون، وبيعت فيه الذمم وانقلبت فيه المفاهيم، وسُميت الأسماء بغير حقيقة مسمياتها، وانحرفت الفطرة عن معناها الإنساني الأصلي.
ومع تكرار نقض العهود ونسف الوعود وإخلافها، واللدغ من نفس الجحر لمرات ما استطاع الناس أن يستبينوا سبيل المنحرفين في هذا المقام، ولا استطاعوا أن يأخذوا العبرة والاتعاظ الحسن من سوالف التجارب، وما طبعها من سوابق الاصطفاف الحائف والبوح الزائف.
لا زلت ولا أزال أذكر كيف كان يمشي وكيل اللائحة في حيِّنا على الأرض هونا، خافضا جناح الذل للناس من الرحمة والرفق والتواضع المؤقت، طوافا في الصباح والظهيرة والمساء بين دروبنا بالحسنى على غير عادة ومألوف حال، وقد ترجل هذه المرة من صهوة كبريائه ليخالط الفقراء والبؤساء، وليجالس المعتوهين بأذن سِمِّيعة، ويصافح بيد سُفلى الأطفال ويشاور الحرائر والولدان، بل حتى المعتوهين والبلطجية والمنحرفين صار لهم حظ من وقت صاحبنا الثمين، يا للعجب كيف لهذا السلوك النافق أن يتكرر منه لسنين عددا ثم يتجدد منه في تحيين صافق، والأعجب أنه كان المرة تلو الأخرى عند حصول المطلوب ونوال المرغوب يولي مدبرا ولا يعقب، فلا نكاد نرى لعينه أثرا، اللهم ذِكْر وذكرى غير عزيزة لخطواته وأثر مسيره بيننا في تلك الأيام الخوالي، وتذاكر ومسامرة لوعده بل لوعوده الطوباوية المتبخرة تحت فرن حقيقة الواقع، تُمرر في قالب من الحسرة، ملحون الأنين ذي شجون، تتحسس له تباك يملأ الدواخل وتأبى العين أن تستجيب لضغط الجوف فتجود بعبراتها الحارة، ولكن وما أصعب الاستدراك وما أثقله على النفس، ولكن وللأسف يطول حبل الزمن فيغمس في جوفه هؤلاء المكلومين في صيدلية النسيان.
فما يفتأ الكل أو الجل أن ينسى أو يتناسى تحت طائلة الحاجة وصلف العيش وصلادة أيامه، فيكون النسيان هاهنا باعثا محفزا على إعادة فصول وتكرار سيناريو عين التجارب واجترار حلقات نفس المسلسل بتفاصيلها النمطية ذات السطوة المدلسة والسكرة المفلسة، ولينفخ الزعيم للمرة العاشرة أو يزيد في رماد وسماد ذلك المشهد التمثيلي القصير الأنفاس الكارثي النتائج، ولتخرج مرة أخرى نفس الذوات والوجوه من سدنة وخدام وكمبارس الحملات الانتخابية، فمنهم المجبور بالحاجة، والمتبصر بالانتماء، وعابر السبيل بالمصلحة العاجلة، ومن هذا الخليط من قد غيّر الوجهة هذه المرة تحت طائلة شعار “الخدمة متسناة لمن دفع ويدفع بكثرة وسخاء حاتمي”.
وعلى أيها حال يطوف هذا الخليط البشري بيننا ويسعى بين الدروب والأزقة والشوارع، يتقدمهم كبيرهم الذي علمهم السياسة وقد تأبط بذراع أيّها الناس، بعد أن اعتنى بهندامهم الفوقي، فكساهم بثياب تحتفي بالرمز واللون والرسم والاسم، يرفعون عقيرة النداء والصراخ المتصل صداه بسحيق الآفاق، والمستمد قوته ووقود حركته الدؤوب من ذلك السخاء الذي لا ينضب معينه ولا يخلو جيب صاحبه من مزيد إمداد، ولذلك فلا غرابة أن تجدهم طيلة الخمسة عشر يوما العجاف لا يملون ولا يكلون، يفعلون ما يؤمرون حتى يزفون الرجل إلى مقعده وكرسيه المأمول، فيؤشر هذا التنصيب على معهود نهايته، حيث يولي الزعيم السياسي مدبرا في موعود رجعة ومرغوب أوبة إلى نفس الحي مع نفس الوجوه بعد انصرام فترة الانتداب والوكالة، أو أنه قد يرسب فينقلب سوطا على مريديه وجمهور العاملين معه قبل غيرهم، وتلك سيرتنا مع ديموقراطية القوم في ثوبها الحداثي ونسختها المحلية.
ونعوذ بالله من شر أن نلدغ ابتداء، حتى إذا ما حصل اللدغ مرة استعذنا بالله أن نلدغ من هذا الجحر للمرة الثانية.
وقد كنت كتبت مقالا إبان الحملة الانتخابية للولاية التشريعية السابقة وهي تعيش أشدها، أوجه فيه ومن خلاله ـ سامحني الله ـ الناس لمقارفة ما لم أفعله ولن أفعله يوما، قلت أوجه إرادة من كان عازما وقتها على التصويت، وقد عنونت المقال بما يخدم المطلوب ويحقق المرغوب ” صوِّتوا على السيء تفاديا لإتراف الأسوأ”
ولم يكن طبعا أو لم أعن بالسيء سوى حزب “العدالة والتنمية” في نسخته المغربية، أما الأسوأ فقصدت به يومها حزب الأصالة والمعاصرة.
وها أنا اليوم وقد دارت الأيام دورتها، وكنت إبانها وطيلة أيامها النحسات قد تذوقت بمعية الشعب معاني النذالة واكتويت بأساليب التعمية، فنويت أن أكف قلمي وأحجر مداده، وأربأ بنفسي عن مثلبة الاصطفاف، أو منقصة نصرة طرف ضد ٱخر وقد تشابه علينا البشر فلا أصفر فاقع بات ينفع، ولا أزرق داكنا صار يقنع، وإننا ولله الحمد قد اهتدينا، أكفه لأقول مجترا في لوعة وأسى: “إن فتية حكموا باسم الإسلام ففضحوا أنفسهم، وأساءوا للإسلام معهم”
ولربما كانت العبارة ثقيلة اللوم غائرة الكُلْم، والإنصاف عزيز ومنه بكل حياد وتجرد قد عُلم أن هذا الحزب لم يكن لوحده يُدير معركة تسيير شؤون البلاد في ظل مزيج عضوي متشاكس، بل كان بمعية شركاء كانوا حتى الأمس القريب يشكلون خصوما لفكرة ولون ورؤية وشخوص هذا الحزب ذي الأنفاس والمرجعية الإسلامية، زد على هذا طبيعة الحكم الملكي في المغرب فليست طبيعة شكلية سلبية الوجود، ذلك أن من مقتضيات البيعة الشرعية ولازم ولاية الأمر في الإسلام أن يحكم الملك ويسود، فيقرر ثم ينفذ.
وإنما الذي جرأنا كي نخوض مع الخائضين في سيرة وعِرض ودندنة السلوك السياسي لهذا الحزب، لم يكن التحامل أو الشماتة أو الاستبشار بما حصل لرموزه من سقوط وهزيمة نكراء في المعترك الانتخابي الأخير استوعبت نتائجها كل ربوع المملكة، قد نال الفوز بالأغلبية المريحة واستفاد من النكسة في المقابل من كان يدير معهم شؤون وتدبير السياسة المحلية للبلاد، بل كان له وزنه واعتباره، كما مسؤوليته الكاملة في ما وقع في هذه المرحلة من التاريخ السياسي للبلاد من سقطات وقفزات، وخسائر ومزايا، وموبقات وحسنات…
إن الذي جرأنا أن نخوض هذا الخوض هو ما لمسناه من حرص شديد لكوادر الحزب على مناصبهم، وما استشعرنا ذوقه طيلة فترتي الولايتين التشريعيتين من نوع التذاذ وتفكه وإخلاد إلى كراسي المسؤولية، واستشراف مرغوب في المزيد من الاستهلاك الزمني فوقها وداخل أروقة مكاتبها التي يطغى على سيرتها شهوة النخوة والتشريف على مكرهة المسؤولية والتكليف، ذلك الطغيان الضارب في غلبة شهواته ونزواته، والذي حال بينهم وبين الانصراف والانسحاب المحمود وقد أتاح لهم مناخ ما سُمي يومها بعملية “البلوكاج” الفرصة المواتية لحفظ ما تبقى من ماء الوجه وإدامه، وتلك طبائع النفوس البشرية تشدها النعم العاجلة فتقيد كينونتها في دائرتها مستشرفة المزيد المزيد من الإمتاع في غير مستشرف قناعة أو تحقق إشباع، ولم تكن والحال هكذا أن تعلم هذه النفوس المسكينة حجم هذا التكليف الثقيل الأمانة والوخيم العاقبة وقد خاب من حمل ظلما، ذلك الثقل الذي جعل النبي صلى الله عليه ويسلم يشفق على بعض أصحابه من حمله.
لا أريد أن أخوض في تفاصيل معطوفات زلات وإقعادات القوم وما أكثرها، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
كما لا أريد أن أسمع لمسوّغات تحيل على إكراهات وقهر ما يسمى بالدولة العميقة، فإنها مسوِّغات كان من المعقول قبولها وتصديقها زمن الولاية الأولى، أما والحال أن القوم قد استلذوا ـ كما أسلفت ذكرا ـ ضرع السياسة لولاية ثانية مستشرفين في إلحاح وأمل مقهور ولاية ثالثة، ليستذروا حليبها الطري، المبستر، الدسم، البارد، في نهم وحرارة ظمأ، فلم يكن ذلك لينهض لهم حجة، أو يقيم لموقفهم المتباكي اليوم وقد خسروا الرهان شأنا واعتبارا وقد صارت عينهم إلى أثر في وجدان المغاربة جميعا.
فاللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها ولو بعد حين، خلف قد حَسُن قوله وصَلُح عمله مصداقا لقوله تعالى: “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين”.
وإنه والله وبالله وتالله لبلاغ تبصير لا شماتة فيه ولا تحقير ولا تطفيف ولا تنكيل، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.