سلسلة جوانب من منهج السلف في تربية الأطفال الجانب الأخلاقي (4) ذ.رضوان شكداني

إن المربي الواعي بمسؤولياته المدرك لدوره هو من يجعل نصب عينيه منهج تربية السلف الصالح لأطفالهم ليسترشد به، هذه التربية التي تميزت عمن سواها بأصالتها وربانيتها، واحترامها للإنسان وتهذيبه، ونفعه والرقي بشخصيته.
ومن أهم جوانب هذا المنهج: التربية الخلقية للأطفال، التي تهدف إلى مرام سامية، وأهداف عالية، وذلك من خلال تطبيق الأخلاق وممارستها في واقع الحياة، لذلك ينبغي على المربي الحاذق أن يبارد بالتوجيه السلوكي للطفل، وترسيخ محاسن الأخلاق في نفس الطفل وإبعاده عن سفاسفها، لأن الخلق الحسن هو القيد الذي يقيد السلوك عن الانحراف والشطط والغلط، وهو السياج الذي يحيط بكل أصناف التربية.
ومما يدل على أهمية الأخلاق تزكية الله عز وجل لخلق نبيه صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: {وَإِنَّك لَعَلَى خُلُق عَظِيم} القلم: 4.
قال العلامة ابن عاشور: “والخلق العظيم: هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق، وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان لاجتماع مكارم الأخلاق في النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو حسن معاملته الناس إلى اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة، فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن”. التحرير والتنوير 30-64.
وعن سعد بن هشام بن عامر حين قدم المدينة، وأتى عائشة رضي الله عنها يسألها عن بعض المسائل، فقال:
قَالَت: أَلَستَ تَقرَأُ القُرآنَ؟ يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ! أَنبئِينِي عَن خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؟
قُلتُ: بَلَى قَالَت: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ القُرآنَ”. رواه مسلم رقم 746.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: له يا رسول الله ما خير ما أعطي الإنسان قال: “حسن الخلق”. رواه ابن ماجة رقم 3436 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 3321.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم”. رواه أبو داود رقم 4798 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 795.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” رواه أحمد في المسند رقم7829 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم45.
ومن بديع كلام ابن القيم -في ضرورة تنشئة الأطفال على الأخلاق النبيلة- قوله: “ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره، من حردٍ وغضب ولجاج وعجلة وخفة مع هواه وطيش وحدة وجشع، فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخة له فلو تحرز منها غاية التحرز فضحته ولا بد يوما ما؛ ولهذا تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم وذلك من قبل التربية التي نشأ عليها”. تحفة المودود في أحكام المولود ص:240-241.
ومن التوجيهات القرآنية في حث الأطفال على فضائل الأخلاق ما ذكره الله عز وجل عن لقمان الحكيم في وصاياه لولده بقوله: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير﴾ لقمان: 18- 19
قال القرطبي: “لما نهاه عن الخلق الذميم، رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله”. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14-60
ومن توجيهاته صلى الله عليه وسلم للأطفال والشباب لتحسين الأخلاق قول عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالسًا يوم القيامة؟” فسكت القوم، فأعادها مرتين أو ثلاثا، قال القوم: نعم يا رسول الله قال: “أحسنكم خلقا”. رواه أحمد في مسنده رقم 6570‏ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 2650.
وتوجيهه صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن مسعود بقوله: “ألا أخبركم بمن يحرم على النار وبمن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هين سهل”. رواه الترمذي رقم 2488 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه أراد سفراً، فقال يا نبي الله أوصني. قال: «أعبد الله لا تشرك به شيئا»، قال: يا نبي الله زدني. قال: «إذا أسأت فأحسن». قال: يا رسول الله زدني. قال: «استقم وليحسن خلقك». رواه الحاكم 1-45 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 1228.
ومن نماذج حث السلف أطفالهم على محاسن الأخلاق، ما ورد عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه كان يوصي ابنه الحسن فيقول: “يا بُني رأسُ الدين صُحبةُ المتقين، وتمامُ الإخلاصِ اجتنابُ المحارم، وخيرُ المقال ما صدَّقه الفعال. اقبل عذر من اعتذر إليك، واقبل العفو من الناس، وأطع أخاك وإن عصاك، وصله وإن جفاك”. كنز العمال 6 -269.
ودَخَلَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى مُعَاوَيَةَ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، ثُمَّ لَمْ يَلْبِثْ أَنْ نَهَضَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: ” مَا أَكْمَلَ مُرُوءَةَ هَذَا الْفَتَى! فَقَالَ عَمْرٌو: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ أَخَذَ بِأَخْلاقٍ أَرْبَعَةٍ، وَتَرَكَ أَخْلاقًا ثَلَاثَةً: أَخَذَ بِأَحْسَنِ الْبِشْرِ إِذَا لَقِيَ، وَأَحْسَنِ الْحَدِيثِ إِذَا حَدَّثَ، وَأَحْسَنِ الاسْتِمَاعِ إِذَا حُدِّثَ، وَبِأَيْسَرِ الْمَئُونَةِ إِذَا خُولِفَ، وَتَرَكَ مِزَاحَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِعَقْلِهِ وَلَا دِينِهِ، وَتَرَكَ مُخَالَفَةَ لِئَامِ النَّاسِ، وَتَرَكَ مِنَ الْكَلَامِ كُلَّ مَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ “. شعب الإيمان للبيهقيرقم 7706
وعن جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مِسْعَرَ بْنَ كِدَامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، يَقُولُ لابْنِهِ:
إِنِّي نَحَلْتُكِ يَا كِدَامُ نَصِيحَتِي *** فَاسْمَعْ لِقَوْلِ أَبٍ عَلَيْكَ شَفِيقِ
أَمَّا الْمُزَاحَةُ وَالْمِرَاءُ فَدَعْهُمَا *** خُلُقَانِ لا أَرْضَاهُمَا لِصَدِيقِ
إِنِّي بَلَوْتُهُمَا فَلَمْ أَحْمَدْهُمَا *** لِمُجَاوِرٍ جَارًا وَلا لِرَفِيقِ
وَالْجَهْلُ يُزْرِي بِالْفَتَى فِي قَوْمِهِ *** وَعُرُوقُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ عُرُوقِ ”
الصمت وآداب اللسان ابن أبي الدنيا رقم 393
وعن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان قال: جمعتنا أمنا فاطمة بنت الحسين فقالت: “يا بَنَّي إنه والله ما نال أحد من أهل السَّفَهِ بسفههم شيئاً ولا أدركوا ما أدركوا من لَذاتهم إلا وقد ناله أهل المروءات بمروءاتهم، فاستتروا بجميل ستر الله عز وجل”. الحلية لأبي نعيم 3-138
فالتربية الأخلاقية هي المقياس الصادق الذي تقاس به خطواتُ الشعوب، وعزة الأمم، بل هي الأساس المتين الذي تبنى عليه عظمة الأمم وارتقاؤها، فما ارتقت أمة في العالم القديم أو الحديث إلا وكان سببُ ذلك سمو أخلاقِهم ويدل على هذه القضية قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) الإسراء:16.
قال الشاعر:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم *** فأقم عليهم مأتما وعويلا
وقال الآخر:
وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَت *** فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا
فإذا أردنا أن نعيد للأمة الإسلامية مجد أسلافها، فلابد من الرجوع إلى ما كان عليه الرعيل الأول من صحة الاعتقاد، وسلامة المنهج، وحسن الخلق، ونربي أجيالنا الناشئة على ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *