السفر إلى البقاع المباركة في السنة

 

ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن إنشاء سفر مخصص لزيارة مكان مبارك للدعاء والتعبد فيه غير المساجد الثلاثة:

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى[1].

والرحال: جمع رحل؛ وهو للبعير كالسرج للفرس.

والمراد بشد الرحال: السفر؛ وكنّى به عن السفر لأنه لازمه؛ وإلا فلا فرق بين كونه سافر مشيا أو راكبا، ولا فرق بين كونه سافر راكبا على بعير أو فرس أو سيارة أو طائرة[2].

قال الصنعاني: “دل بمفهوم الحصر أنه يحرم شد الرحال لقصد .. المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها”[3].

وقال الألباني: “وفي هذا الحديث تحريم السفر إلى موضع من المواضع المباركة؛ مثل مقابر الأنبياء والصالحين”[4].

قال ابن قدامة[5]: “والصحيح إباحته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا، وكان يزور القبور، وقال: «زوروها تذكركم الآخرة».

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد“؛ فيحمل على نفي التفضيل، لا على التحريم”.

فالفقيه ابن قدامة يرى أن النهي في الحديث؛ نهيُ كراهة وليس نهي تحريم.

وقال ابن تيمية : “وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفّى بنذره، وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تُعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد“.

والمسألة ذكرها القاضي إسماعيل بن إسحاق في المبسوط، ومعناها في المدونة[6] والخلاف وغيرهما من كتب أصحاب مالك.

يقول: إن من نذر إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء بنذره؛ لأن المسجد لا يؤتى إلا للصلاة.

ومن نذر إتيان المدينة النبوية فإن كان قصده الصلاة في المسجد وفّى بنذره، وإن كان قصد شيئا آخر مثل زيارة من بالبقيع أو شهداء أحد؛ لم يَفِ بنذره؛ لأن السفر إنما يشرع إلى المساجد الثلاثة، وهذا الذي قاله مالك وغيره ما علمت أحدا من أئمة المسلمين قال بخلافه”اهـ[7].

قال الإمام مالك في الموطأ: معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من نذر أن يعصي الله فلا يعصه“؛ أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر أو إلى الربذة أو ما أشبه ذلك مما ليس لله بطاعة[8].

قلت: وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا الحكم مختص بالمساجد فقط؛ وأن معنى الحديث: لا تشدوا الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة[9].

وفيه نظر؛ إذ إن الصحابة رضي الله عنهم فهموا من الحديث ما هو أعم من ذلك؛ كما يدل عليه ما رواه الإمام مالك في الموطأ[10] عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة..

قال: فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري[11] فقال: من أين أقبلت؟

فقلت: من الطور.

فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تُعمل المطي إلا إلى  ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام أو إلى مسجدي هذا أو إلى مسجد  إيليا“.

قال الحافظ ابن حجر: “فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه  ووافقه أبو هريرة”[12].

قلت: ووافقهما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:

عن قزعة قال: أردت الخروج إلى الطور فسألت ابن عمر فقال: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام  ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى“.

ودع عنك الطور فلا تأته[13].

 

[1]  رواه البخاري (1189) ومسلم (1393).

ورواه البخاري أيضا في (1197) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ورواه هو وغيره عن صحابة آخرين؛ ولذلك صرح بعض الحفاظ بأنه متواتر. انظر: الإرواء (773).

[2]  انظر: فتح الباري (3/82).

[3]  سبل السلام (2/917).

 [4] أحكام الجنائز وبدعها (ص288).

[5] المغني لابن قدامة (2/ 195).

 [6] انظر: المدونة الكبرى (6/776).

[7]  مجموعة الفتاوى (27/178).

[8] الموطأ بالروايات الثمانية (3/70)، والحديث رواه مالك (1149) والبخاري (6696).

[9]  انظر: فتح الباري (3/84).

[10]  برقم: (257)، ومن طريقه أبو داود (1046) والترمذي (491) وقال: “حسن صحيح”، وأحمد (2/486) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وسنده صحيح.

وانظر لمزيد من التوسع في فقه ودلالة الحديث: التمهيد (2/263) مع فتح المالك، والصحيحة (2/697)، وأحكام الجنائز (ص 288 فما بعدها).

[11]  قال الحافظ ابن عبد البر: “لم يقل في هذا الحديث فيما علمت (فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري) في حديث مالك هذا، عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة عن أبي هريرة غيره، وسائر الرواة إنما فيه… عن أبي هريرة قال: لقيت أبا بصرة وأظن الوهم جاء فيه من يزيد، والله أعلم”. [الاستذكار: (2/41)].

[12]  فتح الباري (3/84).

[13]  قال الألباني: “أخرجه الأزرقي في أخبار مكة (304) بإسناد صحيح ورجاله رجال الصحيح [أحكام الجنائز (287)].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *