مَنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة الفصل الأول: مناخ نشأتها في أوروبا* يتبع

جاء الإمبراطور الروماني “قسطنطين الأول الأكبر” الذي وصل إلى عرش الإمبراطورية على جسر من أشلاء النصارى الذين بذلوا دماءهم من أجل إيصاله إلى الحكم ليظفروا بعطفه على النصرانية متى صار إمبراطوراً، وقد حكم الإمبراطورية من سنة (306) إلى سنة (337) ميلادية، فبدا له بعد ست سنوات من حكمه، أي: في سنة (313م) أن يعتنق النصرانية، دون أن يبتعد كثيراً عن وثنية روما التي كانت دين أسلافه، وهي عقيدة وثنية قائمة على التثليث، وكان هذا ثمرة تأييد النصارى له.

..فدعا إلى مجمع كنسي عالمي، وهو ما يعرف باسم “مجمع مسكوني”، فانعقد هذا المجمع المسكوني الأول بأمره في “نيقية” سنة (325م) ميلادية فكان يُعرف هذا المجمع في التاريخ النصراني بمجمع نيقية.
وفيه تقررت عقيدة التثليث وأن المسيح ابن الله.
وأمر “قسطنطين” بأن تكون هذه العقيدة هي الدين العام، ومن ثمّ ولدت “الكاثوليكية” ديناً رسمياً للدولة الرومانية، وترجمة هذه اللفظة “الدين العام”.
أما الموحدون الذين يؤمنون بأن عيسى عبد الله ورسوله فقد انضموا إلى “أريوس” وأطلق عليهم اسم “أريوسيين” أو “أريسيين”.
وظل أريوس مخالفاً معارضاً بعنف قرارات المجمع المسكوني القائلة بألوهية المسيح وبعقيدة التثليث، وبأن عيسى ابن الله، ومعلناً بشرية المسيح وبأنه ابن الإنسان، ومجاهراً بأن الله واحد لا شريك له، وبأنه منزّه عن الحلول بأحد.
وصمود “أريوس” على العقيدة الصحيحة زعزع مركز الإمبراطور وأقلقه، ولذلك دعا إلى عقد المجمع المسكوني الثاني، واقتصر هذا المجلس على القائلين بالتثليث، ليناقشوا “أريوس”.
إلا أن هذا المؤمن الموحد صمد صمود الأبطال، فحكموا عليه بالكفر والنفي، وأخذوا ينكلون بمن كان يقول بقوله، ويحرفون أناجيلهم وكنائسهم، حتى أرغموا الناس على التظاهر بقبول العقيدة الكاثوليكية.

آراء المؤرخين والمفكرين الغربيين فيما انتهت إليه النصرانية
1- يقول الأمريكي “درابر” كما جاء في كتاب “تاريخ الصراع بين الدين والعلم”:
“دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين الذين تقلدوا وظائف خطيرة، ومناصب عالية في الدولة الرومانية بتظاهرهم بالنصرانية، ولم يكونوا يحتفلون بأمر الدين، ولم يخلصوا له يوماً من الأيام، وكذلك كان قسطنطين، فقد قضى عمره في الظلم والفجور، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره سنة (337م).
إن الجماعة النصرانية وإن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك، ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية وتقتلع جرثومتها، وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت بمبادئها، ونشأ من ذلك دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء، هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى الإسلام على منافسته الوثنية قضاءً باتاً، ونشر عقائده خالصة بغير غبش.
وإن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا ولم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً، رأى لمصلحته الشخصية ولمصلحة الحزبين المتنافسين (النصراني والوثني) أن يوحدهما، ويؤلف بينهما، حتى إن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة، ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة، وسيخلص الدين النصراني في عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كتاب “كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة” للشيخ الدكتور عبد الرّحمن حسن حَبَنّكة الميداني (ج1/ص: 16-17-18-19).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *