قال الله تعالى في محكم كتابه: “فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ” هود، فالله سبحانه وتعالى يكشف لنا في هذا القول الكريم عن تاريخ وقانون.
أما التاريخ ففيه التجربة والدرس وأما القانون ففيه البيان والإعلام. فمن تاريخ الأمم السابقة التي أهلكها الله جلّ جلاله أن قليلاً من أفرادها كانوا ينهَوْن عن الفساد، ولكنّهم لقلّتهم وعدم قدرتهم على دفع الفسادِ والظلم والتَّرَف حَقَّ عليها العذاب الأليم، ونزلت بهم الأهوال المدمِّرة كالصيحة المزلزلة، والرياح العاتية، والخسف المرعب، والطوفان الشامل..
قال تعالى: “فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” العنكبوت، فها هي مساكنهم الخاوية بادية للعيان إلى يومنا هذا في الربع الخالي من الصحراء العربية، وعلى طريق المسافر من الأردن إلى الحجاز، وفي البقعة المخسوفة التي غمرها ماء البحر المسمى بالبحر الميت في الأردن. ولو أنهم بقيت فيهم نُخبة تنهى عن الفساد وتنشر الهداية وتدفع بقوتها وحيويَّتها تيّارَ الظلم والترف لما أهلكهم الله تعالى.
وأما القانون ففيه بيان وإعلام -وبيان الله وإعلامه وقوله فصل وليس بالهزل- وهو أنّ الربَّ تبارك وتعالى ليس من سُنّته إهلاكُ الأمم وتدميرُ المدنِ والقرى وإفناءُ الحضارات بسبب ظلمها طالما أن فيها ناساً مصلحين صالحين طائعين لله في ذوات أنفسهم ومصلحين لغيرهم في مجتمعهم.
ومن هذا المنطلق فإن قانون الله لا يُحابي، وما سمِّي القانون قانوناً أو بالتعبير القرآني: (مثلاً وسُنّةً) إلاّ لأنه مطّرد. والدعاة إلى الله عز وجل إن لم يعوا هذه الحقيقة ويتحمّلوا مسؤولية الإصلاح والدعوة ودفع الفساد، ستكون النتيجة وخيمةً على المجتمع كافة، وهو ما نرجو ألاّ يكون إلاّ أنّ الأمرَ ليس بمجرّد التمنِّي بل بإدراك الخطر الداهم أولاً، ثم باستنفار كلّ الجهود لدفعه كما هو مقتضى سنّة الله المبيَّنة في القرآن: “وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ”.
والخطر الذي يداهمنا في هذه المرحلة هو المتمثّل بسَيْل جارف من الفساد الفكري والخُلُقي الذي اكْتَسَحَ كل الميادين وبمختلف الوسائل. ذلك الفساد الذي يتركّز على أمرين: أحدهما فكري وهو الترويج للمفاهيم والقيم العلمانية الداعية إلى فصل الدين عن كل شؤون الحياة.
والفساد الثاني فهو خُلُقي ويتمثل في الانتشار الواسع لموجاتِ الإباحية والانحلال، وفتح باب الشهوات على مصراعيه، وظهورُ العُرْي بين النساء، والتفنُّن في التبرّج وتحريك الغرائز، وانتشار الزنا واللواط والسحاق، مما يهدِّد كيان مجتمعنا برمّته بالدمار، ولا يُبقى على فضيلة ولا خُلُق، ويَهوي بالشباب والشابّات إلى مهوىً سحيقٍ من التيه وقلّة الحياء والانغماس في الشهوات والفواحش.
فمن الواجب على كل غيور على دينه ووطنه وهويته أن يبذلَ التضحيات والجهود والأموال في سبيل الإسلام ونشر دعوته، لأن ديننا أغلى عندنا من أرواحنا، وعزّتنا أكرمُ لنا من حياة الذلّ والهوان، وأن نفضح مخططات العلمانيين ونكشف تهافت مفاهيمهم وقيمهم، إن كنا نطمع أن نعد من البقية الباقية الذين انتدبهم الله للقيام بالدعوة إلى الحق حين يغفلُ الناس، والإصلاحِ حينما يفسُدُ الناس، فنجعلُ الدعوةَ إلى الله تعالى هي حياتَنا، وهدايةَ الناس هي سعادتَنا، والعودةَ بالمسلمين إلى دينهم هي همّنا وقضيَّتَنا لأن في ذلك عزَّنا في الدنيا ونجاتَنا وتكريمَ الله سبحانه لنا في الآخرة.