زيارة البابا لبلاد الشام تكريس للتآمر الصهيوني الصليبي على الإسلام إعداد: عابد عبد المنعم

ظلت الكنيسة الكاثوليكية طوال ألفي عام متمسكة باعتقادها بأن ما يسمى بالأمة اليهودية قد آلت إلى زوال، وأن الله طرد اليهود من فلسطين إلى بابل عقوبة لهم على قتل المسيح، -وهو اعتقاد خاطئ من الوجهة الشرعي لقوله تعالى: “وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ”-، وأن النبوءات الدينية التي تتحدث عن العودة تشير إلى العودة من بابل، وأن هذه العودة قد تمت بالفعل على يد الإمبراطور الفارسي قورش.

وقد وصف الإنجيل اليهود بمختلف الأوصاف المستهجنة، منها أنهم قتلة الأنبياء، وأبناء قتلة الأنبياء، وأنهم أولاد الأفاعي، وأنهم أهل رياء وفسق، وأنهم أهل جهل وعمى وضلالة، وأنهم عديمو الإحساس بالعدل والرحمة والأمانة. (إنجيل متى، ولوقا، والرسالة إلى مؤمني روما).
ومن غرائب ما ترتب على هذا الاعتقاد ما حكاه “جون دومينيك كروسان” في مقدمة كتابه: “من قتل المسيح؟” من أن سكان مدينة “تولوز” الفرنسية كان لديهم في العصور الوسطى تقليد خاص يعتبرونه جزء مهمًّا من المراسم الدينية، وهو إحضار يهودي إلى الكنيسة، ليصفعه أحد النبلاء أمام الجمع، إحياء لذكرى الضرب والإهانات التي تعرض لها المسيح على أيدي اليهود.
وظل الفاتيكان بتعاليمه وأدبياته ونشراته المختلفة ضد إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين؛ ليحافظ على جزء أساسي في عقيدته في أن هذه عقوبة إلهية لقتلهم المسيح عليه السلام وقد مارس الفاتيكان هذا عمليا من خلال الرسائل الموجهة لعصبة الأمم، وإرسال الوفود للولايات المتحدة للاعتراض على تأسيس هذا الكيان بوعد بلفور وما بعده من رفض لقرار التقسيم.
إلى أن جاء اجتماع أعضاء مجمعة المسكوني الثاني في ستينات القرن الماضي ليشكل منعطفا خطيرا في العلاقات بين الفاتيكان والصهاينة، بإصدار وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام، ولترتكب أكبر جريمة سياسية مغلفة بشكلها الديني لتبرير اغتصاب فلسطين، ولترفع العقوبة الإلهية وتتحول إلى نعيم؟!
فازداد بذلك تنازل الفاتيكان عن نصوصهم الدينية لمصلحة الصهيونية من خلال قرارات وإعلانات ومبادرات ولجان مشتركة وزيارات وتصريحات، كان من أبرزها الاعتراف والتبادل الدبلوماسي عام 1993 م، ووثيقة الاعتراف بالذنب عن التقصير الكاثوليكي بحماية اليهود من المجازر النازية عام 1998.
وفي الزيارة الأخيرة التي قام بها بابا الفاتيكان للشام فتح رأس الصليبية العالمية صدره وقلبه بكل ود واعتزاز للجانب الصهيوني وبادر هو من تلقاء نفسه بتقديم كل أنواع الاعتذارات بالقول والفعل وحتى المشاركة في الشعائر اليهودية نفسها، وقد أبدى عميق أسفه على جرائم العالم النصراني ضد اليهود عبر التاريخ كله، وشدد على اعتذاره بصفته ألمانياً ينتمي لبلد المحرقة، كما أنه قام بزيارة بيت الجندي الأسير شاليط وواسي أهله في محنتهم، ولم يعلق ببنت شفه على 11000 أسير القابعين في السجون الصهيونية منذ فترات طويلة، كما أنه رفض زيارة غزة أو التعليق علي المجازر الصهيونية، بل أبدى غضبه الشديد من مداخلة الشيخ التميمي الذي طالبه أثناء زيارته للأقصى بالضغط على الصهاينة من أجل تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني بغزة.
لقد جاء البابا للمنطقة وقد ترك فاتيكانه في حالة سخط واضطراب لم يشهد مثله من قبل بسبب تصريحاته المتهورة التي اعتبرها كثير من قساوسته ورهبانه تجاوزات قد تعدى فيها البابا حدوده في كثير من الملفات والقضايا، مثل سلبيته تجاه انحراف الكثير من القساوسة والرهبان خصوصاً في أمريكا، والقضايا التي كبدت الفاتيكان عشرات الملايين من التعويضات نتيجة الاعتداء علي الأطفال والنساء في الكنائس، وإصراره على معارضة الكنيسة ورجالها في أمريكا الجنوبية، والتدهور الكبير الذي شهدته الكنيسة الكاثوليكية في عهده والتراجع اللافت لأعداد التابعين لها في أوروبا، وأخيراً تصريحاته المثيرة للجدل حول نظرية دارون بالنشوء والارتقاء، حيث اعتبرها صحيحة، مما جعل الكثيرين داخل الفاتيكان يجاهرون ولأول مرة بانتقادات علنية للحبر الأكبر، في نادرة لم يشهد الفاتيكان مثلها من عهود طويلة.
وبالجملة جاء الرجل إلى الشام وهو في أمس الحاجة لاستعادة شعبيته وهيبته في العالم النصراني الذي شعر بمدى الفارق بين البابا الحالي والبابا الراحل، والتفاوت الكبير بينهما، وأقرب طريق لذلك هو الطريقة التقليدية القديمة وهي الهجوم علي المسلمين والنيل من كرامتهم، وتعمد إهانتهم حتى في قلب بلدانهم، وهو الشيء المحبب لأتباع الكنيسة الكاثوليكية التي تملأ الدنيا بأكاذيب السلام والمحبة والصفح وإدارة الخد.
وفي المقابل بذل البابا كل ما في وسعه لكسب ود اليهود ليتحصل بذلك منهم على الدعم السياسي والمالي والدولي في مواجهة تعثراته الداخلية الكثيرة.
ولعجز البابا أمام السطوة الصهيونية فقد اضطر إلى التخلي عن حمل العصا الكبيرة ذات الصليب التي لا تفارقه غالبا عند زيارته حائط البراق (المبكى)، وذلك لأن الحاخام رابينوفيتش المشرف على الحائط قد دعا قبل زيارة البابا بحوالي شهرين إلى عدم حمل الصليب أثناء زيارته للحائط.
وقد منع نفس الحاخام عام 2007 عددا من القسس النمساويين من دخول المكان بعد أن رفضوا طلبه بخلع أو إخفاء صلبانهم، وقال الحاخام حينها: “إن الصلبان رموز تجرح مشاعر اليهود” وفي عام 2008 منع الحاخام قسسًا أيرلنديين من دخول المكان بنفس الذريعة (صحيفة جيروزلم بوست 17/03/2009). واضطر البابا إلى النزول عند قول الحاخام رابينوفيتش فقَبِل عدم حمل الصليب، وأمر مصاحبيه من القسس بإخفاء صلبانهم أثناء الزيارة (جيروزلم بوست 13/05/2009).
إن الذي كان يلزم الدول التي استضافت البابا إزاء هذه العنجهية الباباوية هو أن تستعلي بدينها وتستقوي به، وتغلق دون هذا العنصري أبوابها، وتمنعه من الدخول إلى بلدانها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *