سألَني صديق بدأَت دودة الكتابة تَنغَلُ في أعماقه، وعشقُ الحرف يجري في دمه: أن أقدِّم له -من خلال تجرِبتي المتواضعة- نصائحَ يَنتفع بها في هذا الميدان الذي قرَّر خوض غماره غيرَ هيَّاب، وأن أعزِّز له كلامي ببعض النُّقولات الأدبيَّة التي تشحذ الهمَّة، وتقوِّي العزيمة. وقال: جُعلتُ فِداك لا تُهمل طلبي، ولا تَجعله منك دَبْرَ أذنِك، وخذ وقتك؛ فلستُ مستعجلًا، ولا بوقتك مُستهترًا، ولك منِّي دعوة خالصة إذا جنَّ عليَّ ظلام اللَّيل ونزل ربُّنا في الثُّلث الأخير إلى السَّماء الدنيا. فأعجبني منه أدبه الجَم، وصِدقه في الطَّلب، وعلوُّ همَّته التي بدَت لي صادقة من خلال رسالته؛ لذلك وجدتني أملي له هذه الكلمات استجابةً لطَلِبَتِه، ومحبَّةً لسموِّ غايته.
فأقول وبالله التوفيق:
إنَّ أيَّ بناء لا يمكن أن يقوم إلَّا بركائزَ متينةٍ، وأُسس قويَّة لا تلين ولا يُدركها الاهتراء، ودعائمَ تبقى على مرِّ الزَّمان. وإنَّ الكتابة لا يمكن أن تستويَ على سوقها بين يدي الكاتب إلَّا بإتقان اللُّغة العربية وقواعدها، والصَّبر على ذلك، ودفع الملَل والضَّجر الذي قد تُسبِّبه بعض قواعد النحو؛ فإن اللَّحنَ في الكتابة مَعرَّة وسيئة من أعظم السَّيئات التي تعوَّذ من شرها كثير من السلف الصَّالح، يقولُ سعيدُ بن أسلم: دخلتُ على الرشيد فبهرَني هَيْبَةً وجلالًا، فلما لحَنَ خَفَّ في عيني.
وقد كانوا يعدُّون الفصاحة من المروءة، واللَّحْنَ من خوارمها، يقولُ ابن شهاب: ما أحدثَ النَّاسُ مروءةً أعجب إليَّ من تعلُّم الفصاحة.
وهذا أبو عثمان الجاحظ إمام البيان يتعوَّذ في مقدِّمة كتابه (البيان والتبيُّن) من العِيِّ والحَصَر، وينشد للنَّمِر بن تَوْلَب:
أعِذْني ربِّ من حَصَرٍ وعِيٍّ ♦♦♦ ومن نفسٍ أعالجها علاجَا
والحريري في مقدِّمة مقاماته يَحمد اللهَ على علم البيان، وما ألهمه من التِّبيان، ثمَّ يتعوَّذ من شِرَّة اللَّسَن، وفضول الهَذَر، ومعرَّة اللَّكَن، وفضوح الحَصَر.
إي والله، إنَّه يجعل الحَصَرَ فضيحةً.
وقال محمد بن الليث: النَّحو في الأدب كالمِلح في الطعام؛ فكما لا يطيبُ الطعام إلَّا بالملح، لا يَصلحُ الأدب إلَّا بالنَّحو.
وكان ابن عمر يَضربُ ولدَه على اللَّحْنِ كما يضربهم على تعلُّم القرآن.
والأخبار في هذا كثيرة؛ انظرها غيرَ مأمور في مقدِّمة معجم الأدباء لياقوت الحَمَوي.
ثم كثرة القراءة، فلا يمكن أن تجدَ مبدعًا أو عبقريًّا – كاتبًا كان أو أديبًا – كان في خصام مع القراءة، بل إنَّ حياتهم كلَّها قراءة ومطالعة، وتتبع لكل جديد في مجال الثَّقافة، وهذا يعطي لأقلامهم قوَّة ووزنًا، وحمولة ثقافيَّة تشعر بها وأنت تطالِع ما تجود به خواطرُهم.
فهذا توفيق الحكيم على سبيل المثال كتَب فصلًا مطولًا عن قراءاته ومطالعاته في كتابه “زهرة العمر”، وممَّا قاله: لقد غرقتُ في آداب الأمم كلِّها؛ فلسفاتها وفنونها. لم أكن أسمَح لنفسي بأن أجهلَ فرعًا من فروع المعرفة؛ لأنِّي كنتُ أعتقدُ أنَّ الأديب في عصرنا الحاضر يجبُ أن يكون موسوعيًّا! لذلك بذلتُ جهدي في أن أحيطَ بأبرز ما أنتجَت العبقريَّة الإنسانية! وقال قبل ذلك في ص41: إنِّي أطالعُ في اليوم ما لا يقلُّ عادةً عن مائة صفحة في مختلف ألوان المَعرفة؛ من أدبٍ وفنون، وفلسفة وتاريخ، إلى علوم رياضية وروحانيَّة. مائة صفحة في اليوم؛ أي: ثلاثة آلاف صَفحة في الشَّهر! بينما المُقرَّر كله لامتحان الدكتوراه لا يتجاوز ثلاثة آلاف صفحة في العام كلِّه!
وخير ما تَستعين به قبل كلِّ شيء كثرةُ القراءة في كتاب الله الخالِد، وحفظ ما تَستطيع حفظه، فوالله لن تَجد أحلى منه تعبيرًا، ولا أجمل منه فَصاحة، ولا أبرع أسلوبًا، وبشهادة الكفَّار الذين تأدَّبوا بالعربية، فاستعانوا على ذلك بالقرآن الكريم، وإليك ما قاله أخونا الأستاذ أحمد العلاونة قبل أيَّام على صفحته (الفيسبوكية) عن الشَّاعر السوري النَّصراني رياض عبدالله حلاق:
قال لي -وهو نصراني- أعطاني والدي وأنا شابٌّ القرآنَ الكريم، وطلب مني أن أقرأه لأصقل لغتي وأقوِّيَها، فلمَّا قرأتُ فيه قلتُ لوالدي: لم أفهمه، فأعطاني نسخةً من تفسير الجلالين، فصرتُ أفهم ما في القرآن، فقويَت لُغتي، وطلب منِّي والدي أن أداوم القراءةَ فيه من أجل اللغة.
ووالده عبدالله هو صاحب القصيدة المشهورة في مَدح النبيِّ صلى الله عليه وسلم (قبس من الصحراء)، ومطلعها:
قبسٌ من الصَّحراء شعشَع نورُه ♦♦♦ فجلا ظلامَ الجهل عن دنيانا
وكذلك حِفظ بعض المقطوعات النَّثرية الجيِّدة، والقصائد الرَّائعة؛ لصقْلِ موهبتك وملَكتك، فتصبح لك القدرة على التَّعبير عمَّا يجول بداخلك، وما يَختلج في نفسك من مشاعر وأحاسيس وعواطف. واسمع ما قاله علَّامة المغرب عبدالله كنون في كتابه (أدب الفقهاء ص:8).
على أنَّ الحفظ وحده لا يَكفي، بل لا بدَّ من المَلَكة؛ وهي الاستعداد النَّفسي الذي ينميه الحفظ، وتصقلُه الممارسة، والمَلَكة غيرُ الذَّوق الذي يتحدَّث عنه علماء البيان ويقولون أيضًا: إنَّ الحفظ لكلام العرب والممارسة لأساليبها في النَّظم والنَّثر مما يكوِّنُه ويُربيه؛ فإنَّ الملكة هي طاقة الإنتاج، وتَحتاج إلى الذوق ليكون الإنتاج رفيعًا، والذَّوق معيار النَّقد، فصاحبه يَعرف وجوه الحُسن والقُبح في الكلام، ولكنَّه لا يكون أديبًا إلَّا إذا كان صاحب مَلَكَة، وقد كان في العرب نقَّاد لهم بصَر بجيِّد الشِّعر وبليغ النَّثر، ولكنَّهم لا يستطيعون إنتاج أثَرٍ مَا في أيِّ باب من أبواب القول؛ ومنهم الأصمعيُّ الذي قيل له: لِمَ لا تقول الشِّعر مع سَعة روايتك له ومعرفتك بجيِّده ورديئه؟ فقال: الذي أريده منه لا يأتيني، والذي يأتيني لا أريده، وفي زمننا هذا الدكتور طه حسين مثلًا فإنَّه على رسوخ قدمه في نقد الشعر لا يَنظِم منه شيئًا؛ اهـ.
لا تحاول أن تَذوبَ في شخصيَّة غيرك، وليكن لك أسلوبك الخاص؛ فالتَّقليد والمحاكاة ليسا محمودين على كلِّ حال، والأسلوب هو الرَّجل كما يقول الكاتب الفرنسي بوفون، ويقصد أنَّ شخصيَّة الكاتِب تَظهر من خلال ما تخطُّه يمينُه، وهذا لا يتأتَّى إلَّا بكثرة القراءة التي تحدَّثتُ عنها قبل قليل، ولتوفيق الحكيم كلامٌ جميل وطويل في كتابه “زهرة العمر”، عن الأسلوب ومعاناته في التِهام مئات الكتب من أجل البحث عن أسلوبٍ لا تقليد فيه. فراجِعه؛ فإنَّه مهم.
وما أجمل ما قاله يحيى حقِّي في حوارٍ قرأتُه قبل أيَّام في مجلة العربي عدد 365: فجميع مبادئ الكاتِب يجب أن تكون مُنبعثة من نفسه وطبعِه ومزاجه، ومن قراءاته الشَّخصية، لا يتعلَّمها من غيره!
ولا تبالِغ في تَنميق الكلام وتَزويقه، ولا تحرص كلَّ الحِرص على اللَّفظ وتهمل المعنى، فرُبَّ كلام رائع جميل يسرُّ النَّاظر والقارئ بألفاظه الفخمة، وبيانه المشرِق، وعباراته الجَزْلة، لكن إذا أنت تدبَّرتَه وتأمَّلتَه وفتَّشتَه، لم تخرج منه بطائل.
وقد ذَكر أنيس منصور في كتابه (في صالون العقَّاد كانت لنا أيَّام) قصةً في إبَّان شبابه، خلاصتها أنَّه كتب مقالةً فلسفية، وعرضها على العقَّاد بعدما عُرضَت في مجلة أو جريدة، فسأله بعد أيَّام عن رأيه فيها، فقال له العقَّاد: أعجبني الأسلوب، فظلَّ أنيس منصور محتارًا مكتئبًا تائهًا، لم ينَم تلك الليلة من أجل هذه الكلمة، بل أعاد قراءةَ مقالته مرَّات عديدة؛ لأنَّ الأسلوب بدون معنًى لا قيمة له.
وفي مقدِّمة كتاب الشِّعر والشُّعراء لابن قُتيبة، وأسرار البلاغة للجرجاني وغيرهما من الكتب البلاغيَّة والنقدية، نجد أبياتًا جميلة جدًّا في ظاهرها تُنسبُ لكثيِّر عزَّة، يقول فيها:
ولمَّا قضيْنا من مِنًى كلَّ حاجة .. ومسَّح بالأركان مَن هو ماسِحُ
وشُدَّتْ على حُدْبِ المَهَارَى رحالُنا .. ولا يَنظر الغادي الذي هو رائحُ
أخذْنا بأطراف الأحاديثِ بيننا .. وسالَت بأعناق المَطيِّ الأباطحُ
ابن قتيبة يقول فيها: حَسُنَ لفظُه وحلا، فإذا أنتَ فتَّشتَه لم تجد هناك فائدة في المعنى.
ويقول عنها الدُّكتور زكي مبارك في كتابه العشَّاق الثلاثة ص 99: وهذه الأبيات شغلَت علماء البلاغة حينًا من الزَّمان، وجروا فيها على طريقتهم في شرح الاستعارة، وانتهى بعضهم إلى أنَّها كلام بدون محصول.
والمقصود أن يكون اعتناؤك بالمعنى كاعتنائك باللَّفظ في غير شطَط ولا مبالغة، وأرسل نفسك على سجيَّتها وأنت تكتب لا تتكلَّف ولا تضَع الألفاظ في غير محلِّها، وخاطب القارئ المعاصِر بما يطيقُ، وإيَّاك واستعراض عضلاتك اللُّغوية على المتلقِّي؛ فإنه سينفر منك ويرحل، ليبحث عن كاتبٍ غيرك؛ يستوعب كلامَه، ويفهم مقصوده بلا عناء ولا تعَب. ولا تكن متشدِّقًا ثرثارًا، وخير الكلام كما يقول الجاحظ: ما كان قليله يغنيك عن كثيره.
ثمَّ أوصيك بتَعظيم شعائر الله، واحترام مقدَّساته، والترفُّعِ عن سفاسف الكلام وهُجْرِ القول والتَّحريضِ على الفواحش ما ظهَر منها وما بطن، كما هو دأب الذين لا يعلمون، فقد بنى الكاتب المغربي سيِّئ الذِّكر محمد شكري مجدَه الأدبي على خبزه الحافي، وتُرجمت له هذه الرِّواية النَّتنة إلى ثلاثين لغة، لا لأنَّ صاحبها واسع الخيال، أو لأنَّ له أسلوبًا منقطع النَّظير، أو لأنَّ له عاطفة جيَّاشة تلهب قلبَ القارئ، أو لأنَّ أفكاره غير مسبوقة. كلَّا، بل هو أقلُّ من هذه الجواهر بكثير، ولكن لأنَّ كلامه لا يخرج إلا من المراحيض، وبيوت الدَّعارة، وأوكارِ الفساد، ومواخير شياطين الإنس والجنِّ، اهتمَّ بها الكفَرَةُ والزَّنادقة والعلمانيون، واحتفلوا بها احتفالًا لا يليق إلَّا بمن كان راسخًا في التَّفاهة والبعد عن الطُّهر الذي ينشده كلُّ صاحب فِطرة نقيَّة.
فالكاتب الحق هو مَن يحمل أمانةَ القلم، وأمانةَ الكلمة؛ لأنَّ النَّاس الذين يقرؤون له يُصابون بالإعجاب والتقدير والاحترام له، ومن ثَمَّ تَجدهم يحاولون محاكاته وتقليده والاقتداء به؛ فإن استطعتَ أن تكون مفتاح خيرٍ بقلمك، مغلاقَ شرٍّ، فافعل، وإن لم تستطع:
فدعْ عنك الكتابةَ لستَ منها ♦♦♦ ولو سوَّدتَ وجهَك بالمدادِ
يقول علَّامة العربية أبو فِهْر محمود شاكر في مقالاته 1/490.
إنما حَمَلتُ أمانةَ هذا القلم لأصدعَ بالحقِّ جِهارًا في غير جَمجَمة ولا إِدهان، ولو عرفتُ أنِّي أَعجِزُ عن حَمل هذه الأمانة بحقِّها لقذفتُ به إلى حيث يذِلُّ العزيز ويُمتَهَن الكريم. وأنا جنديٌّ من جنود هذه العربيَّة، لو عرفتُ أنِّي سوف أحمل سيفًا أو سِلاحًا أمضَى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوَغى في فلسطين، ولكني نَذَرتُ على هذا القلم أن لا يكُفَّ عن القِتال في سبيل العرب ما استطعتُ أن أحمله بين أناملي، وما أُتيح لي أن أجد مكانًا أقول فيه الحقَّ وأدعو إليه، لا يَنهاني عن الصَّراحة فيه شيء ممَّا ينهى الناسَ، أو يخدعُهم، أو يغرِّر بهم، أو يغريهم بباطل من باطل هذه الحياة؛ اهـ.
وإيَّاك أن تجعل من قلمك بوقًا سياسيًّا، أو منظِّرًا لبِدعة أو حزبيَّة ضيقة، أو جماعة تَدعو إلى ضلالة، فلا شيء يقيِّد القلمَ يا صاحبي ويجعله ضيِّق الأفق لا يستطيع التَّحليق في سماء الإبداع كالعبوديَّةِ العرجاء من أجل دراهمَ معدودات لا قِيمة لها، بل لا تساوي ثمَن المداد الذي تكتب به إن كنتَ صاحبَ أفكار نيِّرة.
هذا ما بدا لي قوله في هذه النَّصيحة، وأعتذِر إليك عن التَّطويل. واللهَ أسألُ أن يجعلها نبراسًا يَهتدي بها كلُّ عاشقٍ للكتابة، محبٍّ للقلم. والحمد لله ربِّ العالمين.