ذكر ابن عطية: أنّ النقّاش حكى: أنّ أصحاب الكِندي (الفيلسوف) قالوا له: “أيّها الحكيم اعمل لنا مِثْلَ هذا القرآن، قال: نعم أعْمَل لكم مثلَ بعضه، فاحتجبَ عنهم أيَّاماً ثمّ خرج فقال: والله ما أقدر عليه، ولا يطيق هذا أحد، إنِّي فتحت المصحف فخرجتْ سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونَهَى عن النكث، وحلّل تحليلاً عامّاً ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبرَ عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يستطيع أحد أن يأتي بهذا إلاّ في أجْلاد”. (أجلاد: جَمع جِلد أي أسفار). (فتح القدير).
القرآن معجزة خالدة مثلت أعظم دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقد خص بها دون سائر الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ وصار القرآن الكريم أخص دلائل الإعجاز وأظهر آياته لثلاثة أسباب:
أحدها: أن معجز كل رسول موافق للأغلب من أحوال عصره والشائع المنتشر في ناس دهره، لأن موسى عليه السلام حين بعث في عصر السحرة خص من خلق البحر يبسا؛ وقلب العصا حية؛ ما بهر كل ساحر وأذل كل كافر، وبعث عيسى عليه السلام في عصر الطب فخص من إبراء الزمني ”المرض” وإحياء الموتى بما أدهش كل طبيب وأذهل كل لبيب.
ولما بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في عصر الفصاحة والبلاغة خص بالقرآن في إيجازه وإعجازه بما عجز عنه الفصحاء وأذعن (خضع) له البلغاء وتبلد فيه الشعراء ليكون العجز عنه أقهر.
والثاني: أن المعجز في كل قوم بحسب إفهامهم وعلى قدر عقولهم وأذهانهم وكان في بني إسرائيل من قوم موسى وعيسى بلادة وغباوة لأنه لم ينقل عنهم ما يودون من كلام مستحسن أو يستفاد من معنى مبتكر وقالوا لنبيهم حين مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم {اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف:138). فخصوا من الإعجاز بما يصلون إليه ببداهة حواسهم، والعرب أصح الناس إفهاما وأحدهم أذهانا؛ قد ابتكروا من الفصاحة أبلغها؛ ومن المعاني أعذبها؛ ومن الآداب أحسنها؛ فخصوا من معجزة القرآن بما تجول فيه أفهامهم؛ وتصل إليه أذهانهم فيدركوه بالفطنة دون البديهة؛ وبالروية يعني ”التدبر” في معانيه من غير عجلة دون البادرة؛ لتكون كل أمة مخصوصة بما يشاكل طبعها ويوافق فهمها.
الثالث: أن معجز القرآن أبقى على الأعصار وأنشر في الأقطار من معجز يختص بحاضره ويندرس أن يزول وينتهي بانقراض عصره؛ ومادام إعجازه فهو أصح وبالاختصاص أحق.
قال ابن العربي المعافري رحمه الله: (اعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة؛ مقرون بالتحدي؛ سالم عن المعارضة؛ وهي إما حسية وإما عقلية؛ وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم، وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم وكمال أفهامهم، ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذووا البصائر كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا) البخاري.
قيل أن معناه أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القران مستمرة إلى يوم القيامة. وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون دليلا على صحة دعواه.
وقيل: المعنى أن المعجزات الواضحة الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى؛ ومعجزات القران تشاهد بالبصيرة. فيكون من يتبعه لأجلها أكثر؛ لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا.
وإنما وصف القران بكونه يشاهد بالبصيرة لما يتضمنه من بديع الأسرار وروائع البيان والأحكام الصائبة والتوجيهات السديدة التي تصقل النفس البشرية وتنفذ إلى أعماقها وتفيض عليها بفيض الحكمة وإشراقة الحق.
قال أبو الحسن الأشعري فيما نقله عنه السيوطي في معترك الأقران: “إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالاً، وكذلك من ليس ببليغ، فأما البليغ الذي أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه وعجز غيره عن الإتيان بمثله”.
ولا خلاف بين العلماء أن كتاب الله تعالى معجز لم يقدر أحد على معارضته بعد تحديهم بذلك، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ} (التوبة:6)، فلولا أن سماعه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه ولا يكون حجة إلا وهو معجزة ولما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء (عظماءهم) وتحداهم على أن يأتوا بمثله وأمهلهم طول السنين فلم يقدروا؛ كما قال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} (الطور:34)، ثم تحداهم بسورة فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} (يونس:38)، فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء نادى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القران فقال: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء:88)، فأخبر سبحانه عن عجزهم عن الإتيان بمثله وهم الفصاحة والبلاغة والخصومة والجدل.
وقد كانوا أحرص شيء على إطفاء نوره وإخفاء أمره؛ فلو كان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها قطعا للحجة؛ ولم ينقل عن أحد منهم أنه حدَّث نفسه بشيء من ذلك ولا رامه؛ بل عدلوا إلى العناد تارة وإلى الاستهزاء أخرى. فتارة قالوا سحر وقالوا شعر وتارة قالوا أساطير الأولين. كل ذلك نتيجة الحيرة والانقطاع، ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم وبين دراريهم وحرمهم واستباحة أموالهم؛ وقد كانوا آنف شيء وأشده حمية، فلو علموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه لأنه كان أهون عليهم.
قال الجاحظ: “بعث الله محمدًا -صلَّى الله عليه وسلَّم- أكثر ما كانت العربُ شاعرًا وخطيبًا، وأحكَمَ ما كانت لغةً، وأشدَّ ما كانت عدَّةً، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله، وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجَّة، فلمَّا قطع العذر، وأزال الشُّبهة، وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحميَّة دون الجهل والحيرة، حمَلَهم على حظِّهم بالسيف، فنَصَبَ لهم الحرب، ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعلامهم، وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجُّ عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحًا ومساءً إلى أن يُعارِضوه إن كان كاذبًا بسورة واحدة، أو بآيات يَسِيرة، فكلَّما ازداد تحدِّيًا لهم بها، وتقريعًا لعجزهم عنها، تكشَّف عن نقْصهم ما كان مستورًا، وظهر منه ما كان خفيًّا، فحين لم يجدوا حِيلة ولا حُجَّة قالوا: أنت تعرِف من أخبار الأُمَم ما لا نعرِف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتَرَيات، فلم يَرُمْ ذلك خطيبٌ، ولا طمع فيه شاعر… فدلَّ ذلك العاقلَ على عجز القوم مع كثرة كلامِهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم، وكثرة مَن هجاه منهم، وعارَض شعراء أصحابه وخطباء أمَّته؛ لأن سورة واحدة وآيات يَسيرة كانت أنقضَ لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان، وإنفاق الأموال” (انظر: الإتقان 2/117).