الإنسان بين التخير والتسيير إسماعيل بنزكرية

 

إن النظرة المستعجلة لنصوص الوحي، قد تجعل الإنسان يستنتج تسير الإنسان وخضوعه المطلق أمام الإرادة الإلهية الكلية، وبالتالي فقدان معنى التكليف مادام الإنسان غير مسئول عن أفعاله ومجبر عليها، بحيث يبدو للبعض أن الله تعالى يفرض إرادته على مخلوقاته -خاصة الإنسان- انطلاقا من بعض نصوص الوحي مثل قوله تعالى: والله خلقكم وما تعملون[1].

وبالمقابل نجد أشخاصا أخريين يعتبرون الإنسان كائنا حرا بشكل مطلق في أفعاله، وغير خاضع لأي قوة خارجية عنه، وهو تصور يؤسس لنفي الغيب والغرق في الحلولية المادية الكمونية.

لكن النظرة الإسلامية المتوازنة تعلمنا كيف نبني تصورات متماسكة ومتكاملة، فلو قلنا أن إنسانا كتب كتابا، فلا شك أن الله هو خالق هذا العمل، لأنك أنت وأفعالك تعودان لله، مع وجود أشياء تعود إليك وهي كسبك، وهو شرط عادي وضروري، فأنت لتحمل القلم تخضع لقوانين عمل الدماغ وتحريك الأعضاء وهنا أنت مسير.

لكن هناك جانب أن صانعه بإرادتك بحيث تستطيع أن تكتب ما تشاء من أفكار وهنا أنت مخير.

فلو ضربنا مثلا بتزويد منطقة معينة بشبكة المياه عن طريق شركة متخصصة، وإيصال المياه إلى بيتك، فأنت لكي تحصل على الماء تحتاج فتح الصنبور، فهنا لا يمكن القول أنك لم تقم بأي شيء للوصول إلى الماء، وكذلك لا يمكن نسبة أمر تزويد المنطقة بالمياه ووصولها إلى بيتك إليك، فنحن هنا أمام إرادتين.

فالعمل يعود تمامًا إلى الله تعالى، ولكن الله تعالى عندما خلق هذه الأعمال قبل تدخلك الجزئي الذي هو شرط عادي يبنى عليه ما ستفعله من التدخل الجزئي.

وبالتالي نستطيع تقسيم الإرادة إلى نوعين: الأولى هي الإرادة الكلية التي وضعت قوانين الأشياء وحددت صيرورتها. وهي إرادة الله وحاكميته المهيمنة على مخلوقاته، والثانية وهي إرادة جزئية منحها الإنسان لكي يستفيد من الإرادة الأولى ويكيّف أفعاله وفقا لها بما منحه من حرية الاختيار.

فالإرادة الأولى تخضع لمشيئة الله يقول تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله[2].

فالله هو خالق كل شيء ولكنه من أجل التكليف والامتحان ومن أجل أسرار وحكم أخرى قبل مباشرة البشر وكسبهم كشرط عادي. فهو سبحانه أحكم الحاكمين جعل إرادة عبده الذي هو في منتهى الضعف شرطاً عاديًا لإرادته الكلية”[3].

فالإنسان في هذه الحياة يتحرك ضمن إرادتين الأولى كلية حددت قوانين عمل الأشياء في الوجود، فلكي أكتب هذا المقال فأنا مسير بمجموعة من القوانين الفسيولوجية مثل السيولة العصبية التي تحدث في دماغي لكي يتحرك يدي فيحمل القلم ويكتب، ولا شك أني لا أتدخل في هذه العملية التي تحدث بشكل غير واعي مني، كما هو الشأن بالنسبة لبقية وظائف أعضائي التي تشتغل خارج إرادتي المباشرة من حيث قوانين عملها الذاتية، فلو حدثت جلطة في دماغ الإنسان -لا قدر الله -فإنه سيصبح عاجزا عن القيام بمجموعة من الأفعال رغم وجود إرادة منه للقيام بها، وهذا معنى خلق الله لأعمالنا الوارد في الآية وتصيره لنا.

لكن لا شك أني أختار الأفكار التي أستدل بها ونوع الخط الذي أكتب به، وأحاول فهم تصريف الله في تدبير خلقه وجعل هاتين الإرادتين، الجزئية والكلية، وسِيلتي لمزيد معرفة الله والتأمل في قدرته وجميل صنعه، في حين يمكن لشخص ملحد أن يوظف عكس حججي لإثبات عكس الأفكار التي أحاول إثباتها، فكل منا -الكاتب والملحد- يخضع لإرادتين، الأولى كلية وهي قوانين الفسيولوجية التي تضبط حركاتنا، وإرادة جزئية وهي اختياراتنا لما سنفعل بهذه الملكات.

لذلك فالطرح الإسلامي جد متماسك في هذه القضية، بحيث يقدس الله ويصفه بما يستحق من إحاطة وضبط لمخلوقاته، مع منح الاعتبار لإرادة الإنسان كمكلف وحامل لأمانة سيحاسب عليها.

وبالتالي فإن الآيات تتكامل وتتناسق لتؤسس لمعنى كلي، ولا تتناقض كما يزعم المبطلون.

—————————–

[1] الصافات:96.

[2] الإنسان:3.

[3]الكلمات؛ لبديع الزمان سعيد النورسي، الكلمة السادسة والعشرون / المبحث الثاني / المثال السابع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *