هل يعلم المسؤولون في بلدنا الأمين أن هذا الشعار الذي أصبحوا يردّدونه بطريقة فَجَّة ومُستَفِزَّة، ويحاولون فرضَه على المغاربة بالإكراه ويُحاصرونهم به من كل ناحية، هو شعارٌ خطيرٌ وفتّاك، وإذا كُتِبَ له أن يُمرَّر ويُطبَّق عن طريق المناورات السياسية وتنويم الضمائر الحية، دون توفير الضمانات والشروط الموضوعية التي تحدُّ من آثاره وسَلبياته، وقبل إيجاد البدائل التي تحمي الفئات المُتَضَرِّرة وتُنقِذُها من مخالب الاستثمارات المُتَوحِّشة، فسيكون ذلك بدايةً النهاية للسلم الاجتماعي المُستَتِبِّ لحد الآن، والدخول في مرحلة المِحَن والإِحَن والصراع الطبقي والاجتماعي الحاد الذي يتولَّد عنه بالضرورة صراع سياسي لن يلبث إلا قليلاً ثم ينتقل إلى الشارع ويُشعل الحرائقَ والحروب الأهلية الطاحنة التي لا تُبقي ولا تَذَر.
يقول المثل: «قَطعُ الأعناق ولا قَطع الأرزاق». وأنتم أيها السادة الذين تدفعون في هذا الاتجاه، وتريدون قطعَ طريق التعليم على الفئة الفقيرة والطبقة المتوسّطة، بإغلاق المدارس الثانوية والمعاهد العليا والجامعات في وجوه أبنائهما إلا بمقابل، وحَجْبَ العلاج والدواءِ عنهما وإغلاق المستشفيات في وجوههما إلا بمقابل، فكأنما تقطعون أرزاقَ هؤلاء وتُقضون على أحلامهم ومستقبلهم، لأنكم بالفعل تهددّون استقرارَهم وتُنغِّصون عليهم حياتَهم وعيشَهم… فهل تنتظرون من هؤلاء الفقراء أن يصبروا على سياستكم هذه حتى تقضي عليهم القضاءَ المُبرَم؟.. هذا طريقٌ غيرُ سالك. ومن أراد اقتحامَه بالقوة أو الحِيلة، فعليه إثمُ ما سيرى وإثمُ ما سيقع.. فاتقوا شرَّ الفِتَن النائمة.
كُفُّوا -ما استَطَعتُم- عن الخضوع لإملاءات مؤسسات القرض الدولية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي…) وما تقدمه لكم من وصفات جاهزة وحلول تبدو لكم بسيطة وسريعة، بينما هي مجرد سُموم قاتلة. قد تُخلِّصُكم من ورطة وَقتية عارِضة، ولكنها تورِّط شَعباً كاملاً وترهَن مستقبَل الوطن كلِّه لأمَدٍ بَعيد لا نستطيع التنبّؤَ بنهايته، وتُبعِده عن التنمية الحقيقية والعادلة أشواطاً وأشواطاً، وتُرجِعُه إلى الوراء خُطواتٍ وخطواتٍ.
لا يمكن للتنمية الشاملة أن تحدث إلا عن طريق واحد وهو تعميم التعليم. ولا يمكن لتعميم التعليم أن يحدث إلا بالتشجيع المادي والمعنوي طوراً وبالإجبار والإلزام طوراً آخر، وهذان أمران يتناقضان تماماً مع قول مَن يقول:« على الدولة أن ترفع يدها عن التعليم» الذي أصبح شعارَ المرحلة.
الدولةُ مطالبة بتطبيق العدالة الاجتماعية التي تخلُق التوازُن في المجتمع وتؤدي إلى العيش في سلام ووئام. وهذا يقتضي أن تضمن المساواةَ للجميع في حق التعلُّم الجيِّد بكل مراحله، وليس مرحلة التعليم الأساسي وحدها، أي مرحلة محو الأمية الكتابية، كما يقترح المجلس الأعلى للتعليم هذه الأيام. هذا مجرد خداع. لأن حَجْبَ التعليم الثانوي والعالي عن الطبقات الفقيرة والمتوسِّطة، بحكم أنها غير قادرة على الأداء، معناهُ: ظلمٌ اجتماعي ماحِقٌ، وتعليم طبقي وفِئوي فاضح لا يُقبَل ولا يُطاق. ولا يمكن لمجتمع واعٍ أن يرضى به أو يصبر عليه.
من يدعو لوقف مجانية التعليم والصحة، هو نفسه الذي يدعو لرفع يد الدولة عنهما. والأمران مُتلازِمان، وجهان لعُملة واحدة: أنتَ حين تُطلِق يدَ القطاعَ الخاص في مجالَي التعليم والصحة، تعمل بالضرورة على قَصِّ أجنحة المدارس والمستشفيات العمومية، دون أن تقدِّم بديلاً للطبقات الضعيفة والمُحتاجة. وهذا له ثمن غالٍ وكُلفةٌ اجتماعية عالية جداً. فهل شعبُنا قادرٌ على تحمُّل عبء هذه الكُلفة لإشباع نزوات السياسيّين؟ وهل وصل مجتمعُنا إلى مستوى الرَّفاهِ المادي الذي يُمكِّنُه من الأَداءَ مقابل تعليم جيد، والأَداءَ مقابل علاج جيد؟
ألا فليتَّعِظ الساسةُ الجُدد، ويحسبوا للأمر ألفَ حسابٍ ويتراجعوا عن الطريق المُنحَرِف الذي هم فيه سائرون بلا حَذَر ولا حِيطة.
مرة أخرى، أقول: احذَروا شرَّ الفِتَن.