التقليد المذموم وقول الله تعالى: “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ” ناصر عبد الغفور

قال الله تعالى: “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ”.

معلوم أن هذه الآية في ذم من اتبع العلماء في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحله سبحانه، لأنهم بهذا يصيرون مضاهين لله جل جلاله في شيء من ربوبيته سبحانه، فالعبرة بالعموم لا بخصوص الأحبار والرهبان.

وقد استشكل الصحابي الجليل عدي بن حاتم هذه الآية، “وكان قد دان بالنصرانية قبل الإسلام فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قال: يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم”([1]).

وفي رواية أن النبي عليه السلام قال تفسيرا لهذه الآية: “أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه”.

يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى: “{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} وهم علماؤهم {وَرُهْبَانَهُمْ} أي: العُبَّاد المتجردين للعبادة.

{أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه، ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها”([2]).

والآية عند التحقيق لا تختص بالتحليل والتحريم، ولكنها تشمل أمرا جللا ابتلي به بعض المسلمين مما كان له الأثر السيئ على الأمة الإسلامية: ألا وهو التعصب المذهبي والتقليد الأعمى للأئمة، خاصة الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى.

فقد حذر هؤلاء الأئمة أشد التحذير من تقليدهم وتقديم أقوالهم على ما صح من الدليل، واتفقت كلماتهم في ذلك:

يقول الإمام أبو حنيفة النعمان: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”.

ويقول الإمام مالك: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”.

ويقول الإمام الشافعي: “إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت”، وفي رواية “فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد”، ويقول رحمه الله تعالى: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”.

ويقول الإمام أحمد: “لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا”([3]).

لكن رغم كل هذه الوصايا والتحذيرات، أبى البعض إلا التقليد الأعمى لهؤلاء الأئمة والتعصب المقيت لهم -مخالفا في حقيقة الأمر لأصل مهم من أصولهم ألا وهو تقديم ما صح من الدليل-.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة”، ثم قال: “وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم وقالوا نحن على مذاهبهم وقد دانوا بخلافهم في أصول المذهب الذي بنوا عليه فإنهم بنوا على الحجة ونهوا عن التقليد وأوصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه، فخالفوهم في ذلك كله وقالوا نحن من أتباعهم تلك أمانيهم وما أتباعهم إلا من سلك سبيلهم واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم”([4]).

وقد وصل الأمر ببعض المتعصبة إلى القول: “كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ”.

وقد أنكر كبار العلماء هذا التعصب الأعمى والتقليد المقيت أشد الإنكار، أكتفي بأحدهم وهو سلطانهم العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى إذ يقول: “ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده… وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده… فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر، وفقنا الله لاتباع الحق أين ما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم، وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما ناظرت أحدا إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه اتبعته”([5]).

وتقديم قول الأئمة على ما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في حقيقة الأمر من اتخاذهم أربابا، لأن النبي صلى الله عليه إنما هو مبلغ عن الله تعالى وكل ما أخبر به من أحكام فهي من تشريع المولى سبحانه، والتعصب لأقوال الأئمة مع وضوح الحق وظهور الدليل لا يشك عاقل أنه يندرج في الذم الوارد في الآية.

كما أن هذا التقليد المذموم والتعصب المقيت للأئمة يعتبر صورة من صور اتباع أهل الضلال من النصارى وأهل الغضب من اليهود، كما ورد بذلك التحذير والنذير من النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: “لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر أو ذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قالوا: اليهود و النصارى؟ قال: فمن؟ “-متفق عليه-.

فكما أن اليهود والنصارى يقلدون الأحبار والرهبان في ما يخالف الشرع والدليل فكذلك فئام من أمة الإسلام يقلدون الأئمة في ما يخالف الحجة والبرهان([6]).

وقد بوب علامة الأندلس الحافظ أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله تعالى في كتابه الماتع جامع العلم وفضله: “باب فساد التقليد” ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع: قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه فقال: [اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله]…”([7]).

وبعد أن ذكر مجموعة من الآيات الواردة في ذم التقليد ونعي أصحابه، قال: “وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر وإنما وقع التشبيه بين التقليدين (في كونهما اتباعا) بغير حجة للمقلد كما لو قلد رجلا فكفر وقلد آخر فأذنب وقلد آخر في مسألة فأخطأ وجهها كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه”([8]).

فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يجنبنا طرق أهل الغواية والضلال وأن يحسن الخواتم والمآل.

والله أعلم وأحكم ونسبة العلم إليه سبحانه أسلم.
———————————-
([1] ) رواه الترمذي وغيره وحسنه، وحسنه العلامة الألباني.

([2] ) تفسير السعدي:334.

([3] ) نقل هذه الأقوال عن هؤلاء الأئمة كثير من أهل العلم، وقد جمعها العلامة الألباني رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه الماتع صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

([4] ) إعلام الموقعين:2/207.

([5] ) قواعد الأحكام في مصالح الأنام:2/135-136.

([6] ) مع الفارق طبعا، وهو أن الأحبار والرهبان كانوا مخالفين للشرع عمدا مشترين به ثمنا قليلا، أما أئمة الإسلام فإنهم عليهم رحمة المنان بذلوا قصارى وسعهم في إصابة الحق، وإن خالفوا في بعض اجتهاداتهم الصواب فليس عن قصد بل لعدة أسباب منها عدم وصول الحديث إليهم أو اعتقاد ضعفه أو غير ذلك، مع أنهم أمروا بتقديم الحديث إن خالف قولهم واجتهادهم.

([7] ) جامع بيان العلم وفضله:387.

([8] ) جامع بيان العلم وفضله:389.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *