الحضارة الغنائية ذ.طارقالحمودي

سلسلة بيان حقيقة حال أبي عصواد(أحمد عصيد)

قال أحمد عصيد في مقال له عن الغناء بمناسبة فوز إحدى المغنيات بالمرتبة الثانية في مسابقة عربية للغناء: (بين الفقهاء والغناء جفوة قديمة).
وهذه مغالطة مردها إلى التعميم المقصود أو غير المقصود من إطلاق كلمة (الغناء)، فالكلمة معناها الصوت المطرب، وتزيين الصوت أمر محمود، خصوصا عند قراءة القرآن، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (زينوا القرآن بأصواتكم) وجعل ذلك من التغني فقال صلى الله عليه وسلم: (ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي أن يتغنى بالقرآن)…
إنما الذي كان بين الفقهاء وبينه جفوة…غناء الخدود والقدود والمدود؛ غناء القيان في محافل الرجال الأجانبمصحوبا بالمسكرات والخمر والمعازف والزمر.
لم تكن هناك أبدا جفوة بين الفقهاء وبين الغناء النظيف وهو على عكس وصف العيون والأصداغ، ونعت الصدور والأرداف، وذكر للعشق المحرم والزنا المجرم، فحرموه لأنه محرك للشهوة ومخرج عن الطبيعة ومضر بحالة النفس المعتدلة، ومخالف للعقيدة والشريعة.
كان الإسلام ولا يزال على ود مع الشعر الحسن، الخالي من المفسدات، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الشعر: (هو كلام، فحسنه حسن وقبيحه قبيح) (الصحيحة 447). وأقر أنجشة على غنائه في حديث: (رفقا بالقوارير)، وكان الصحابة يتغنون بغناء الحداء والنصب، كما قال عبد الله بن الزبير: (وأي رجل من المهاجرين لم يتغن النصب)..رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح (تحريم آلات ص128).
وأقر عمر بن الخطاب رباح بن المغترف كما عند البيهقي (10/224) بإسناد جيد (الآلات ص1 29) واستدعت عائشة مغنيا ليغني لبنات من أهل بيتها، وأثر عنها قولها: (خذ بالحسن ودع القبيح) (الصحيحة).فكان عندهم الحسن الجائز والقبيح المردود.
وقال: الحضارة الإسلامية ككلّ كانت حضارة غناء بامتياز.
وهذا استغباء واستخفاف بعقول الناس، بل واستهانة بالحضارة الإسلامية، فأحمد عصيد بهذا يصور الحضارة الإسلامية حضارة مغنيات وحفلات طرب وخمر ومعازف ولهو، مختصرا الثقافة الإسلامية في أروقة بيوتات الأعيان، والقصور الأميرية…ثم أراد أن يوسع الدائرة قليلا فزعم أن الجمهور استهواه الغناء إلى حدّ الجنون..فأجهز على ما تبقى…وأكمل رسم لوحة المدينة الإسلامية، مدينة الغناء والنغم، حيث ينقسم (المواطنون)بين مغن متقن ومستمع مجنون بالغناء، هؤلاءالمحكومون..أغنياء وفقراء…أما الحاكم فمهووس بمجالس الطرب في بلاطات القرارات السياسية والحربية.
وهذه مغالطات مركبة من مغالطات؛ فلم يكن الأمر كذلك؛ فالحضارة الإسلامية حضارة علم بامتيازواللهو والغناء على طريقة أحمد عصيد كان سببا في مرض الحضارة الإسلامية،فليست كل البلاطات الأميرية كذلك..وليس جمهور المسلمين كما ادعى.
ومن المفيد التنبيه إلى أن الغناء الماجن الساقط والرقص والمعازف وآلات الموسيقى كانت ولا تزال غالبا من مستلزمات الخمر…وقد أشار إلى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)،ولا تكاد تجد ذكر هذه المجموعة إلا في مجالس الوزراء والأمراء من أهل اللهو والمجون، أو أعيان البلد الأغنياء المترفين، فالغناء ومعه الخمر والمعازف كان ميزة (حضارة) الوزارات والبلاطات الأميرية…التي يصفها أحمد عصيد بـ(المخزن)، فهي على أكثر تقدير في لغته…(ثقافة) مخزنية، ولا ترقى في فلسفته إلى تكون مكونا (حضاريا)!
قال جرجي زيدان في تاريخ التمدن الإسلامي (5/42): (أهل التعقل والتقوى كانوا يكرهونه على كل حال ولذلك لم يظهر إلا بعد عصر الراشدين..ولما تولى الخلافة أصحاب اللهو والقصف أخذ الغناء في الانتشار)اهـ.
وقال (ص42): (حتى أفضت الخلافة إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك وكان صاحب شراب ولهو مع تهتك وخلاعة).
وقال (ص42): (على أن أهل التعقل من الخلفاء والأمراء كانوا لا ينفكون عن منعه جهد طاقتهم )اهـ.
فالاشتغال باللهو من هذا النوع من أمارات مستوى الحضارة المتقدم، لكنه في نفس الوقت مؤشر على دخول الحضارة في منطقة الهدم العالية. فكل حضارة ترتقي، ولا تنتبه في خلال ارتفاعها إلى أمراض قد تصيبها بنزول يشبه الارتفاع، فلا ينتبه الناس إلا وهم عند (الصفر) مرة أخرى وأحسن من هذا أن ينتبهوا وسط النزول..فيعاودوا الارتفاع.
ولذلك قال جرجي زيدان (ص44): (فالمسلمون لما تحضروا وأخلدوا إلى السكينة والراحة عمدوا إلى أسباب الرخاء، وفي جملتها الغناء، والمرجع في ذلك إلى الخلفاء والأمراء،لأن الناس على دين ملوكهم ولا سيما في الحكم المطلق).
أما ذكره لأبي الفرج الأصفهاني وكتابه الأغاني في سياق استشهاده فمغامرة مضحكة جدا، فإني أربأ بعاقل أن يفعل مثل ما فعل أحمد عصيد…فقد كان أبو الفرج كما قال هلال بن المحسن الصابي كما في معجم الأدباء (13/100): (وسخا قذرا، ولم يغسل له ثوبا منذ فصله إلى أن قطعه).
وأما في رواياته وحكاياته في الكتاب فقدقال الخطيب البغدادي في التاريخ: (ومثله لا يوثق بروايته) بل كان في شيوخه ما بين كذاب..ودجال!!
ودونك ما فيه كتاب (الأغاني) من كذب وتزوير وتدليس…
وهنيئا لأحمد عصيد بمرجعه التاريخي..فهكذا يكون الاستشهاد العلميعلى طريقة أحمد عصيد!
وأنبهإلىأن أبا الفرج.. ألف الكتاب تزلفا وتقربا إلى (المخزن) الممثل في الأمراء الشيعة.. وأنهى الكتاب تاريخيا عند دولة المعتضد بالله المتوفى سنة 289هـ فهل كانتهت الحضارة الإسلامية هي حضارة المعتضد…
أخشى أن تكون فلسفة أحمد عصيد هي نفسها التي سلك بها أبو الفرج مسلك الحصر والتقييد في كتابه…!
وانظر للتوسع في معرفة حقيقة أبي الفرج وكتابه الأغاني كتاب (السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني/وليد الأعظمي-دار الوفاء).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *