العلم يحث على البحث والتفقه في الدين، ويدعو كل راغب أن يدقق ويمحص ويناقش ويحاور في مسألة أو مسائل فقهية وغيرها من فروع العلم الشرعي، لما للبحث والمدارسة من أثر في الملَكَة العلمية، وحَل ما يُشْكِل، وقد قال صلى الله عليه وسلم :«مَنْ يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»(1)، ومن فضل الله أن العلم ليس بمُحْتَكَر أو مُصادر من أفراد أو مؤسسة شرعية أو تعليمية، كما زعم بعض المعجبين بعلمهم! بل الأمر متاح لكل متعلم صادق ومتفقه رزين ومناقش باحث عن الحق، لكن وفق أصول البحث العلمي والضابط المنهجي، مع حُسن القصد، وتحرٍ لاتباع صحة وقوة الدليل، ومراعاة مسائل الخلاف، بفهم دقيق، وتأنٍ شديد، مع استصحاب الورع والإخلاص، والبعد عن تتبع ما شذَّ من المسائل أو الأقوال، أو تبني الآراء المرجوحة والضعيفة، أوالتفرد بنصر بعض المسائل التي لم يقل بها إلا القلائل مع مخالفة قولهم للصحيح، والحذر من الكلام في المسائل التي ليس للمرء فيها إمام متبع، كما قال الإمام أحمد : «إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام».
قال ابن القيم معلقاً: «والحق التفصيل فإن كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص ولا أثر فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ويعتبر بها نظائرها ويفرع عليها فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى، والله أعلم»(2).
والمناقشات العلمية الشرعية خصوصاً الخلافية منها يجب تناولها في منتديات علمية بحته، وبيئة متخصصة من طلاب العلم، وليس أمام العامة وغير المؤهلين، فهناك من أخذ يطرح أقوالاً في مسائل خلافية، أو مخالفة للدليل وفتوى أهل العلم، وذلك عبر الصحف اليومية والقنوات الفضائية!! غير مكترث للنتائج السلبية، وهذا يدل على عدم فقه، وفقدان الحكمة {وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة: 269).
وهذا النهج له انعكاسات خطيرة، فهو يهون من شأن نصوص الوحي، ويجعلها خاضعة للعبث والتحريف من خلال الفكر الكاسد الضعيف، والقول على الله بغير علم؟ وما أعظمها من فرية، وأخطرها من زلة، وقد يأثم ويتحمل وزر غيره نتيجة طرحه المتسرع الخاطئ، الذي ربما هو ردة فعل من موقف ما!
والأدهى أن يدعي أحدهم أن قوله حق لا يجوز كتمه، وأن من خالفه لا يفقه إلا حفظ النصوص والجمود على آراء قديمة، وعقله منغلق، وكل شيء عنده حرام!
وهذه تهم لا أساس لها من الصحة وهي تدل على فكر متشنج مصادر لغيره، بل أقول تدل على شخصية متعالية متغطرسة مفتونة، فالحق ما فهمه والصواب ما قاله، ومن خالفه فهو المخطئ!؟ وفي حقيقة الأمر أن كلام هذا إن قبل لا يعدو كونه ترديداً لشبهاتٍ قالها غيره، وأقوال مرجوحة ضعيفة، أو مخالفة لقول جمهور أهل العلم، والإجماع المعتبر، أو ضل في فهمه للمسألة، أو ظن أنه أهل للفتوى والاجتهاد، وكل هذا ضلال مبين.
وهذا مزلق خطير؛ للشهرة فيه نصيب، وقد قال إبراهيم بن أدهم: «ما صدقَ الله عبدٌ أحبَّ الشهرة». قال الحافظ الذهبي معلقاً: «قلت: علامة المخلص الذي قد يحب شهرة، ولا يشعر بها، أنه إذا عُوتب في ذلك، لايَحْرِد ولا يبرئ نفسه، بل يعترف، ويقول: رحم الله من أهدى إلي عيوبي، ولا يكن معجباً بنفسه، لا يشعر بعيوبها، بل لا يشعر أنه لا يشعر، فإن هذا داء مزمن»(3).
والنصح المقدم لمثل هذا المعجب بنفسه أن لا يجعل كلامه قواعد لا تقبل المخالفة، أو يُسوق بحثه ونظرته على أنها فتوى قاطعة، وحقائق ساطعة، فالفتوى شيء والبحث شيء آخر، والفتوى لها شروط وضوابط ولها أهل، أو يُظهر نفسه على أنه عالم ومحقق، بسبب حصوله على شهادة، أو وظيفة شرعية، وربما كان قارئاً للقرآن أو طالب علم مبتدئ؟ فهذا يجني على نفسه ويُوقع غيره -ممن لا علم لهم- في الأخذ بأقواله، ظناً منهم بأن هذا الصالح أو المنتسب لجهة شرعية كلامه معتبر! ويكون ما يطرحه مجرد شُبه تهز قناعات من كان يأخذ بفتوى الراسخين من العلماء، بفعل الإعلام المشاهد والمقروء الذي يُروج أطروحات مثيرة، وشبهاً عديدة، وأقوالاً مُطَّرَحة، تمس المرأة المسلمة في عفافها وحجابها واختلاطها بغير محارمها وإباحة الغناء والموسيقى!!حتى وصل النقاش لعدم وجوب صلاة الجماعة؟! وهذا مما يؤلم كل غيور؟ يَطرحها من لا يُعرف بعلم متين، وفهم سليم، فتفرد له الصفحات وتُخلع عليه الألقاب العلمية، ويتصدَّر وهو يتشفى بمخالفاته ومناكفاته لأهل العلم وطلابه، مدعياً أنه قد جاء بما لم يأت به غيره من التحرير والتدقيق، ويلوم غيره -بغلظة- بالانغلاق وضيق الأفق والتشديد على الناس!! وكل ذلك دعوى زائفة، وكذبة تافهة.
وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ الله النَّارَ»(4).
قال المباركفوي: «لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ» أي: يجري معهم في المناظرة والجِدَال ليظهر علمه في الناس رياءً وَسُمْعَةً…؛ «أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ» جمع السفيه وهو قليل العقل، والمراد به الجاهل أي: ليجادل به الجهال، والمماراة من الْمِرْيَةِ وهي الشك فإن كل واحد من المتحاجين يشك فيما يقول صاحبه ويشككه مما يورد على حجته، أو من الْمَرْيِ وهو مسح الحالب ليستنزل ما به من اللبن، فإن كُلاًّ من المتناظرين يستخرج ما عند صاحبه… «وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ» أي: يطلبه بنية تحصيل المال والجاه وإقبال العامة عليه(5).
والمزالق العلمية عقبة خطيرة، تؤثر في الفرد والمجتمع وتخلخل بنيانه، مزالق الجرأة على الفتوى، وتفسير النصوص بمفاهيم غريبة! مزالق تَبَنِّي الشاذ من الأقوال، وغرائب المسائل، مزالق حب التصدر والشهرة وثناء الناس، والرغبة الجامحة في الجاه والمنصب من خلال الإفتاء في مسائل معينة! مزالق البروز الإعلامي، والإكثار من إجراء المقابلات المتلفزة والمداخلات، مزالق الإعجاب بالنفس والكبر والغرور العلمي، كل ذلك مزلةٌ معيقةٌ عن العلم، ومذهبةٌ لبركته، والعاقل من رُزقَ الأناة، وعرف قدر نفسه، وفر بدينه من الفتن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري(69) ومسلم(1719).
(2) إعلام الموقعين4/222
(3) سير أعلام النبلاء7/393
(4) أخرجه الترمذي2654 وغيره، والحديث بمجموع شواهده صحيح.
(5) تحفة الأحوذي(6/454).