أثر مختصر خليل بن إسحاق (ت 776هـ) في الفقه المالكي الدكتور سفيان ناول/أستاذ باحث

من الأسباب الداعية إلى اختصار الفقه، وجمعه في كتب صغيرة الحجم -كما سبق ذكره- تسهيل الإحاطة بالجزئيات الفقهية أمام الفقهاء، قضاة ومفتين ومدرسين، وإن كنت أرى أن الإقبال على الاختصار أيضا ضيق مجال العمل أمام العلماء في عصر الانحطاط، حيث أغلق باب الاجتهاد في الفقه فتجمدت العلوم النقلية والعقلية، فلم يبق أمام هؤلاء سوى إعادة وتكرار ما قاله الأولون في شروح وذيول، أو في تجميع مسائل العلوم ونظمها وتقليص حجم الكتب المطولة.
فهل كانت محاولة جمع الفروع الفقهية واختصارها سابقة لأوانها في تلك العصور؟
لا يمكن الجزم بذلك، خاصة إذا علمنا أن الدواعي إلى تقنين الفقه في بداية القرن الثامن الهجري بل حتى في وقتنا الحالي هي نفسها التي كانت وراء ظهور الملخصات والمختصرات الفقهية في غياب ثقافة فقهية موسوعية، وانعدام القدرة العلمية والمنهجية لتداول المطولات الفقهية، وضعف الحافز العلمي للتعامل مع الأصول المذهبية، وغير ذلك مما يلاحظ اليوم.
أ- دواعي تأليفه للمختصر:
لعل أول باعث على تأليف مختصر خليل هو ما صرح به خليل نفسه في خطبة مختصره حيث قال: «وبعد فقد سألني جماعة أبان الله لي ولهم معالم التحقيق، وسلك بنا وبهم أنفع طريق: مختصرا على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، مبينا لما به الفتوى فأجبت سؤالهم بعد الاستخارة» .
وهذا لا يعني أنه السبب المباشر في التأليف، بل عادة المؤلفين كانت دائما تركز في مقدمة الكتاب، أن جماعة طلبت أو سألت منه القيام بهذا العمل، وصار المتأخرون يفترضون وجود سائل يذكرون أنه طلب منه بيان مسألة أو وضع تأليف أو ما في معناه.
ومن خلال ما ذكره خليل يبدو لي سبب رئيسي في قوله «مبينا لما به الفتوى»، وكأن هناك أزمة فتوى في المذهب المالكي، لاسيما إزاء الفيض من الأقوال التي تحتاج من يميز الصحيح من غيره. مما استدعى تأليف مختصر يستخلص زبدة الفقه المالكي من ذلك الزخم من الأقوال والاختلافات . فجاء المختصر يجمع في ثناياه ما يندر في غيره، ويبين المشهور المعتمد من القولين أو الأقوال.
ب- أصله:
اشتهر كتاب خليل بالمختصر، وهو الوصف الذي أطلقه عليه كما في مقدمته فصار علما عليه بالغلبة، وكلمة «مختصر» صفة لمحذوف أي كتابا مختصرا.
والمختصر الخليلي هو نهاية سلسلة من الاختصارات لما سبقه من مصنفات المذهب، إذ هو مختصر لمختصر أبي عمرو عثمان بن الحاجب (ت646هـ). وهما بدورهـما مختصر لـمختصر البرادعي (ت 372هـ) الــذي هـو مخـتـصر لمختصر ابن أبي زيد القيرواني (386هـ) وهو بدوره مختصر للمدونة الكبرى .
فيكون بظهوره بلغ الاختصار غايته لأنه مختصر مختصر المختصر بتكرر الإضافة ثلاث مرات، ذلك أن ابن الحاجب جمع في كتابه «المختصر الفرعي» كثيرا من الأحكام بدءا بأحكام المياه وانتهاء بالفرائض. وجاء اختصاره كالألغاز، ومصطلحاته لا يفهمها إلا من غاص في بحر الفقه: فجاء خليل بكتابه: «التوضيح»، وهو كتاب غزير المادة، دقيق العبارة، التزم فيه خليل بنقل الأحكام والأقوال الموافق عليها، والمشهورة، والراجحة، يمتاز عليه ببسط الكلام بحيث لم يكلف في نفسه عناء الإيجاز والاختصار، وتسميته «التوضيح» يدل على أنه كتاب شرح وبيان وتوضيح لمتن سابق عليه.

وقد قال ابن حجر: «شرح مختصر ابن الحاجب في ست مجلدات انتقاه من شرح ابن عبد السلام، وزاد فيه عزو الأقوال وإيضاح ما فيه من الإشكال» .
ولم يقف عمل خليل (ت 776هـ) عند شرح مختصر ابن الحاجب (ت 646 هـ)، بل اختصره وزاد فيه كثيرا من المسائل.
ومما أستغربه أن الشيخ خليلا أقدم على شرح مختصر ابن الحاجب ورد الفرع فيه إلى أصله، بعد أن رأى صعوبته في الفهم، فكيف به يزيده اختصارا.
فهل اختصار خليل لهذه التعابير أوضح المعنى أمام صاحب المختصر الفرعي؟
ج- محاولة خليل تقنين الفقه:
يمكن القول إن هذا المختصر يعتبر: «قاموسا فقهيا» سلك فيه مؤلفه مسلك الاختصار، وجمع الجزئيات الفقهية الكثيرة التي تراكمت عبر السنين من جراء تعامل العلماء مع الأدلة العامة والخاصة في استجابتهم لتطورات الحياة وتلونات الوقائع والأحداث الإنسانية، ومن جراء تداولهم للمدونة باختصاراتها وشروحها وتعليقاتها ومدارستها، مما راكم تراثا فقهيا اجتهاديا وتكراريا ضخما، تعددت معه الأقوال وكثرت التفاصيل والجزئيات، بحيث أدى إلى نوع من الكثرة العائقة للإنتاج الفقهي المواكب للأحداث المعاصرة، وخصوصا مع غياب المناهج التعليمية التي تبث في الطالب ملكة التمرس على الكليات والقواعد دون الاكتفاء بتتبع الجزءيات التي يصعب حصرها.
فجاء هذا المختصر بعد دراسة وجهد وإلمام بفقه المذهب، يتناسب مع منهجية المؤلفات في ذلك الوقت. فاقتضى الحال التدقيق واختيار الألفاظ المعبرة عن المعاني التشريعية مع الانتباه للدلالات والمجازات.
وينبغي ألا ننسى أن خليلا شرح «المـختـصر الـفرعـي» المسمى «بجامع الأمهات» لابن الحاجب، وهذا يعني أن خليلا لم يتجاوز هذا الأصل، ولم يلغه، بل استفاد منه. ولهذا نجد خليلا يختزل الكثير من التفاصيل في العبارة الواحدة، حاسما الخلاف الفقهي .
يقول المرحوم محمد حجي وهو يتحدث عن الاختصار وأسبابه وعن الحقبة الممتدة من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر: «…وكان حظ الفقه في هذه النكسة الفكرية كبيرا، إذا ضعفت همم المتفقهين وأعرضوا عن الأمهات وأقبلوا على المختصرات يحفظونها عن ظهر قلب، خاصة بعد أن ألف الشيخ خليل بن إسحاق المالكي المصري مختصره الذي اختصر به مدونة سحنون للمرة الثالثة فصار مختصرَ مختصِر المختصر (ثلاث مرات) جمع في نحو مأتي صفحة، فروع الفقه المالكي: عباداته ومعاملاته، في عبارات مكتنزة محملة من الأحكام والصور مالا تطيق، سهل على المتفقهين حفظ متن المختصر، وصعب عليهم فهم معناه، فقضوا أعمارهم يحلون ألغازه منشغلين بالقشور عن اللب، وكثرت شروح المختصر وحواشيه وتعاليقه بما لا يكاد يحصى عددا حتى حجبت كتب الفقه الأصلية وعفت عليها» .
وعموما فإن هذا المختصر تمكن من حصر جزئيات كثيرة بأسلوب معجمي في روحه لا في جزئياته وظاهره، يراعي الرموز ويوظفها بدقة وصدق تام مع أسلوب الإيغال في الاختصار كما أشار في مقدمته.
فاعتكف الناس على هذا المختصر شرقا وغربا، حفظا وشرحا منذ أن ظهر، حتى إذا أطلق لفظ المختصر من غير تقييد انصرف إليه.
وحيثما مختصر قد أطلقا — له انصرافهم لديهم حققا
حتى إنه بلغ الأمر بناصر الدين اللقاني (ت 958هـ) إذا عورض كلام خليل بغيره يقول: «إنما نحن خليلون إن ضل ضللنا» ولعل السبب في إقبال الناس عليه يرجع إلى أمرين:
الأول: ضعف الهمم وقصور الكفاءات لمتابعة المطولات والموسوعات الفقهية، والتعامل مباشرة مع هذه المصادر خاصة في هذا القرن -الثامن الهجري- والذي بدأت فيه قوى المعرفة والإدراك تخر، وأصبح جسد الأمة وتراثها مهددا بالانكماش والجمود والتضعضع.
الثاني: الصيغة التي جاء بها الكتاب، والتي حاول المؤلف توظيفها لجمع ما تفرق في الكتب الفقهية المطولة من أبواب الفقه، في جزء صغير، مركز معتمد على ما تتم به الفتوى والقضاء وهو ما أثار حفيظة الناس.
إذن فالكتاب قاموس فقهي ضمَّ بين دفتيه ما نذر من الأحكام، مجردة عن الخلاف، تسهيلا على المفتين والقضاة وعموم الناس، ليضع بين أيديهم مادة غضة طرية تثير شهوة كل نهم وشغوف بالفقه وأبوابه. ورغم ما أصاب العقل الفقهي والفكري في هذه الفترة من ركود وجمود وتهاون، إلا أن ما قدمه خليل من عمل، من حيث روحه وجوهره كان تجربة متقدمة في مجال تقنين الفقه، إذ الهدف منها تلخيص ما اشتهر من الأحكام الفقهية عن الإمام مالك (ت:179هـ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *