عن البركة وأصحابها وأنواعها والمنتفعين بها! الحلقة الثانية الدكتور: أبو نجيب محمد

إن طلب حيازة “البركة” -على ما يبدو- عقيدة! وقد نقول: إنها عادة راسخة في النفوس منذ القدم! لكنها عادة سيئة على أية حال كما يفهمها أو كما لا يفهمها المغاربة! وذلك حتى لا يغضب العاكفون للتو على الجري وراء طلبها ليل نهار حتى نقرر في شأنها ما سوف نقرره! مع أن عصر الخرافات والأوهام والأباطيل، لا بد أن يتم دفنه دون إقامة صلاة الجنازة على قبره! ومع ضرورة رفع لوحة معدنية فوق هذا القبر مكتوب عليها: “يحذر الاقتراب منه خوفا من الموت”!
خاصة وأن دعوتنا هذه دعوة رَفع العلامة المتبصر محمد بن العربي العلوي رحمه الله رايتها خفاقة! ونير الاستعمار حينئذ جاثم على أرضنا،، وعقولنا،، وقلوبنا! وهي نفس الدعوة (المصطنعة) التي كانت تتقدم خطب وكتابات اليسار المغربي، حيث إنه كان يعدها من ضمن مظاهر الرجعية التي كانت -كما يدعي- مقيتة وتقض مضجعه! بينما نراه اليوم يحيطها بالاحترام والتقدير التامين! دون أن يتخلف عنه محررو الصحف المستقلة التي تبدو سياسيا أكثر يسارية من كل اليساريين! غير أنها فتحت -للأسف الشديد- صفحاتها لترويج أفكار وادعاءات أنصار “البركة” وحماتها والمدافعين عنها!
وما لا بد من التأكد منه، هو أن “البركة” كعقيدة محدثة. أو كعقيدة تمثل امتدادا لبعضٍ من وجوه الديانة المغربية قبل الإسلام! رافقتُها منذ نعومة أظافري إلى يوم الناس هذا، لكنني -كما سبق القول- متردد بين القبول بها وبين رفضها. لقد كنت بخصوصها -وأنا أستحضرها في ذهني- كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى قبل اتخاذ قرار حاسم!
وبالعودة إلى ما تمت الإشارة إليه. أؤكد بأن الولية التي كنت أنام في ضريحها، لم تعد مصدرا وحيدا عندي لـ”البركة” أو للغضبة الشرسة التي تلحق الأذى بمن تنفجر في وجهه! فقد أصبحت عنصرا فعالا من عناصر المجموعة، أو من عناصر المجموعات الطلابية التي كانت تقرأ القرآن جماعة بالقراءة السوسية المبتكرة المعروف بـ: “تاحزابت”! وهي قراءة بها يدخل أصحابها الجنة! على حد زعم شيخ ذي بال من شيوخ الطريقة التجانية في مخطوط عندي يضم بعضا من رسائله وبعضا من تخريجاته الصوفية المنتمية لعالم الكشف والأذواق والأهواء!
لقد كنا نقرأ القرآن داخل المساجد، وداخل باحات الأضرحة، وداخل المقابر بمناسبة دفن الموتى! وداخل بيوت الناس من كبراء ومن وضعاء! كما كنا نقرؤه داخل مختلف الزوايا التي كانت البلاد السوسية تعج بها عجا! فالناصرية المبتكرة للحزب الراتب الذي يتلى بعد صلاة كل من الصبح والمغرب حاضرة! والتجانية المعانقة لـ”تاحزابت” حاضرة! والدرقاوية المنتصرة للضلال الطرقي الصوفي حاضرة!
إنما ما علاقة كل هذه التوضيحات بـ”البركة” وأصحابها وأنواعها والمنتفعين بها؟
الإجابة عن سؤالنا هذا في غاية البساطة، وفي غاية الوضوح واليسر والسهولة. إن للطلبة بركة وهم حملة كتاب الله عز وجل في الصدور! ولشيوخهم بركة لما لهم من أفضال على من نصبوهم أئمة لهم من جهة، وعلى أدائهم المتميز لوظيفتهم التربوية والتعليمية من جهة ثانية! ولشيوخ الطرق الصوفية ولمقدميها بركة! وللفقراء أو للمريدين بركة! وللمسجد الذي ينعت لدى السوسيين بـ”سيدنا جبريل” بركة! وللراقدين في الأضرحة بركة! بحيث إننا لم نجد تفسيرا لإقامة الولائم الخاصة بالطلبة والفقراء إلا في الإلحاح على الانتفاع بما عندهم من نعم خفية تسري منهم إلى كل من أكرمهم عبر الأدعية التي يتفننون في أدائها، وفي تنويعها بالأمازيغية السوسية القحة!
هذا ما تأكد لي شخصيا وأنا أنتقل بحرية تامة من قرية من بلادي إلى أخرى، بعد أن حفظت القرآن كله -والحمد لله- من أوله إلى آخره.
فهل أعطي صورة عن حضوري في ولائم تقام بالمساجد؟ أو أعطيها عن حضوري في ولائم تقدم داخل البيوت؟ أو أعطيها عن حضوري في ولائم تقام داخل باحات الأضرحة؟ أو أعطيها عن حضوري في ولائم تقام في القبائل على مدى شهر أو أقل أو أكثر حسب حجم القبيلة وأعداد الأسر بها، وذلك قصد إنجاز عادة سنوية يطلق عليها “أدوال”! بغض النظر عن جولات الفقراء الناصريين والدرقاويين التي قد تمتد من سوس إلى أحواز مراكش وإلى فاس وضواحيها جيئة وذهابا؟
هكذا نجد يقينا كيف أن السوسيين تعودوا على أن يقيموا ولائم للطلبة أو الفقراء أو لهما معا في مناسبات عدة: منها ازدياد مولود عند الأسرة. ومنها ختان طفل من أطفالها. ومنها وفاة أحد عناصرها. ومنها زواج فرد من أفرادها. ومنها مرض عضو من أعضائها. ومنها عودته سالما بعد غيبة طويلة! ومنها مجرد إقامة، أو صنع ما يسمى عندهم بـ”المعروف”. أي الإحسان إلى الطلبة داخل البيوت، أو داخل الأضرحة! كل هذا حصل ويحصل من فاعليه جريا منهم وراء الانتفاع بما لدى مدعويهم من قوة خفية تفعل فعلها السحري المضمون على المستوى المادي والمعنوي!
كان أهل أية قرية -ونحن طلبة مقيمون بمسجدها بعيدا عن عوائلنا- يتكفلون بإطعام شيخنا كل يوم. فضلا عن الراتب السنوي الذي يتقاضاه منهم في كل فصل صيف بالتحديد. وكنا نحن الطلبة المسافرين -كما ينعتنا الأهالي- نتناول الطعام بعد أن يكون معلمنا قد نال منه نصيبه! هذا إن كان من المأكولات التي يسيل لها لعابه! وإلا فإنه يقدم لنا القصعة وما تحويه من “كسكس” جاف لا خضرة فوقه ولا ماء تحته. ولا لبن معه لتسهيل ازدراده!
وقلما نتناول اللحم أو المرق إلا في حالات نادرة، فقد تعودنا -بلغة اليوم- على سوء التغذية! دون أن تنفعنا، لا بركتنا، ولا بركة شيخنا مع أنه يقال: “الفقيه ببركته!”. وهما بركتان يسعى الكثيرون إلى حيازتهما والاستفادة منهما! إلا أن هبات من كرم بعض القرويين تمر علينا مرور سحابة صيف بمناسبة ختم ولد من أولادهم، الذي هو زميلنا في الطلب للقرآن! كما تهب علينا بمناسبة صنع أحدهم للمعروف داخل المسجد، بحيث تصل إلى معدتنا وأمعائنا قطع من اللحم والبيض المسلوق! فنكون يومها في قمة السرور والحبور! ناهيكم عن النشوة التي نجدها في تلاوة القرآن، وفي تعمد ظهور كل منا بأنه يحفظه! ناهيكم عن التغني بأبيات شعرية ترضي الأستاذ الذي يشرق وجهه وهو يجارينا في ترديد ما نردده من أبيات وكأنه قائد “الأوركسترا”! مما يترجم عن حسن ترحابنا بمن أكرمنا! أما الدعاء الذي يتولاه شيخنا من حيث طوله أو قصره، فيخضع لمدى ما قدمه لنا مكرمنا من طعام ومن مال في بعض الحالات! بحيث يكون مكرمنا قد حصل في النهاية على بركتنا وعلى بركة معلمنا ليتضح كيف أن لنا وله بركة! أما السؤال المطروح بجدية هنا فهو هذا: هل كنا نحن صغار المتعلمين نحمل عندها مسمى “البركة” في نظر العام والخاص؟
يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *