من أمور العقيدة أن يبرأ المسلم إلى الله من كبيرة التألي عليه سبحانه في استشراف واحتمال الجزم بتوبة مدمن أو ساحر أو فنان أو مشرك أو إسلام كافر من عدمها.
ولا شك أن ما ساقه القرآن في هذا المقام من قصص وضرب أمثال كان جد مسعف للوقوف على أن ثمة حكمة بالغة كانت وراء انقلاب سحرة فرعون من كفرة فجرة إلى سجدة بررة، كما كانت وراء تسجيل رقم الكمال في إيمان زوجة فرعون آسية بنت مزاحم ومنطوق القرآن في النص على أن زوجتي نوح ولوط عليهما السلام كانتا من الغابرين، كما كانت معيارا متحكما منتصرا لآصرة العقيدة على آصرة الدم في قضية قرآن يتلى ويتعبد بلفظه ومعناه في قوله تعالى “تبت يدا أبي لهب” وهي السورة التي نزلت في أبي لهب الذي لم يكن سوى عم النبي عليه الصلاة والسلام في مقابل ما وسم به الصادق المصدوق من رفعه جهد التسليم والعبودية إلى مقام العترة الشريفة وما قرره نبينا بقوله :”سلمان منا آل البيت”.
وربما كان من التناسب الاحتياج إلى هذه التوطئة بين يدي ذكر ما يحصل وما يفزع إليه كل مسلم بالاطراد والاستيعاب من حالة فرح واستبشار عند التخبير بتوبة فنان أو مدمن أو إسلام كافر من المشاهير، ولا شك أن هذا من لازم كمال الإيمان وصدق الانتساب لا دعواه.
غير أن ثمة أمر يدفع صوب سبر غور ذلك الامتعاض الذي يراود النفس ويشوب صفاء ذلك الاستبشار عند البعض، وهو امتعاض كان وسيبقى مادام أن له ما يبرره ويشفع للقبول بذوقه، فلطالما راودت الخطرة وترادفت الخواطر تلو الخواطر والواقع الذي ليس له دافع أن هذا الفنان التائب ومنذ إعلان توبته وهو دائم الانتقال متكرر الظهور مستمرئ للضيافة تحت أشعة النيون من قناة إلى أخرى ومن إذاعة إلى ثانية.
ويا ليت أمر الظهور هذا لزم عتبة البداية وعندها ولا بعد بعدها انقلب ليسعه بيته ويبكي خطيئته، ولكن أمر الظهور يتطور حيث ينصب هؤلاء الحدثاء العهد بالزيغ والفحش والضلال كدعاة ووعاظ بله قادة يوجهون الشباب ويؤصلون القواعد ويتصدرون المجالس والمنتديات كأنهم المنارات التي يقتدى بها فقولهم يدور بين الأجر حين الخطأ والأجرين عند الإصابة.
وليس هذا من باب الرجم بالغيب ولكنه بلاء خبر فكم من راقصة ومغنية وفنان وفنانة انقلبت بين عشية وضحاها إلى عالمة وداعية تتصدر المجالس للكلام عن الحلال والحرام وبيان الأحكام الشرعية مع ما في هذا من الشذوذ والاستثناء النكد إذ قادة الأمة في هذا الباب كانوا دائما العلماء وطلبة العلم الذين أفنوا أعمارهم في طلب العلم وثني الركب في حضرة الربانيين من الراسخين في العلم والعمل والتعليم.
حتى إذا دارت التوبة دورة الرجعة ونضحت الجرائد والمجلات بخبر الانتكاس على العقب وعودة هذه المغنية أو تلك الفنانة إلى سوالف ما كانت عليه من حيف وهز ردف واختلاط وعري وسفور صدم جمهور المتعاطفين من المتساهلين في المدح والثناء.
وحري بمن كان قد انتصب من الناس خواصهم وعوامهم وانغمس بكل سذاجة وتطرف في مدح وإطراء التائب المشهور والكيل له بالثناء المطلق لا على أساس أنه عبد مذنب تاب من ذنبه ولكن على أساس أنه “فلان الفلاني” ذو الرسم والإسم المشهور، حري به أن يقف على مكمن الخطر وبداية خطوات الاستدراج إلى ما سلف ذكره إذ الواجب الفرح به الفرح الذي يصاحبه النصح والتوجيه والدعم والتعزيز الذي يقوي فيه روح الثبات وأنفاس السداد الذي تجعله يجتر ماضيه في صورته الحقيقية لا المزيفة والتي لا تخرجه عن كونه ماض أسود مربّاد؛ شهرته غربة؛ وغناه فقر؛ وحاجة واستغناؤه ضعف ووهن.
وأعظم به من اجترار في مقام تحقيق مشهد التقصير وحلية محاسبة النفس واستحضار حقيقة من يقع عليه النفع بهذا العود المحمود والتوبة النصوح أكان الإسلام أم العائد المستسلم، ولا شك أن هذا كفيل بحبس رؤية الرسم والاسم والمنّ على الله ورسوله والناس أجمعين بهذا الانتساب الجديد، وكبح جماح العجب ورد الثناء إلى جهة المتفضل الهادي إلى سبيل الرشاد سبحانه وتعالى، الآمر بواجب التوبة بقوله جل جلاله: “وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون”، وقوله سبحانه دفعا لكبيرة المنّ والعجب والغرور :”يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان”.
وما أجمل ما كان يستدرك به جماعة الأنصار يوم حنين والنبي يسألهم قائلا: “يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ حيث كانوا كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ.
ولولا مانع قول النبي عليه الصلاة والسلام “ما بال أقوام” لكان حريا التصريح برسم واسم من اعتلى الدرك ليشنف آذانا ساهية؛ وقلوبا لاهية؛ وزمرة متعجرفة؛ وسخائم مترفة في مهرجان الموازين الخاسرة بآيات من الذكر الحكيم، وليغذي الروح زاعما بعد حصول الذات على النصاب الأوفى من الشهوات بذوق الشبهات، وهو التائب الذي لم يسجل ندمه على ما قارفته جارحة اللسان حتى الأمس القريب، ولم يفهم بالقياس الحكيم أنه وكما أمرنا الشارع الحكيم أن نربأ بالقرآن تلاوة؛ والذكر تعبدا في مواطن الكرياس والكنيف؛ فكذلك وجب النأي بالقرآن تلاوة وتعبدا في مواطن الشبه والشهوات الحائفة نسأل الله اليقين والثبات ولغيرنا الإنابة والإخبات.