بين الفقراء والأغنياء نور الدين درواش

لقد اقتضت حكمة الباري عز وجل أن يفرق بين الناس في الأرزاق فيجعل منهم الغني الموسر والفقير المعسر، قال تعالى: (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ) النحل:71.

قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: «فجعلكم متفاوتين فيه -أي الرزق- فوسَّع على بعض عباده، حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفًا مؤلَّفة من بني آدم، وضيَّقه على بعض عباده، حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها؛ وكما جعل التفاوت بين عباده في المال، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم، وقوة البدن وضعفه، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وغير ذلك من الأحوال”.
ولا شك أن الإيمان بالله سبحانه يقتضي الرضا بما قسم مع عدم الاعتراض ولا التضجر؛ قال تعالى: (إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) آل عمران:37.

ابتلاء وامتحان
إن في تفريق الله الناس إلى أغنياء وفقراء فتنة لكل صنف منهما بالآخر، فعن الحسن البصري قال: كتب عمر رضي الله عنه رسالة إلى أبي موسى الأشعري، يقول له فيها: «واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلاً، فيبتلي من بسط له، كيف شُكْره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله” رواه ابن أبي حاتم )كما في تفسير ابن كثير 4/72).
قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) الفرقان:20، “وهذا عام في جميع الخلق امتحن بعضهم ببعض.. امتحن الأغنياء بالفقراء؛ والفقراء بالأغنياء، وامتحن الضعفاء بالأقوياء؛ والأقوياء بالضعفاء.. ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم من أتباع الرسل فتنة لأغنيائهم ورؤسائهم امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل وقالوا: (لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) هؤلاء..، وقالوا لنوح عليه السلام: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ(، قال تعالى: )وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا)، فإذا رأى الشريف الرئيس المسكين الذليل قد سبقه إلى الإيمان ومتابعة الرسول حمى وأنف أن يسلم فيكون مثله، وقال: أسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حد سواء” (إغاثة اللهفان لابن القيم 2/882).
وقال سبحانه: (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) الفجر:15-16.
قال ابن القيم معلقا: «فأخبر سبحانه أنه يبتلى عبده بإكرامه له وبتنعيمه له وبسط الرزق عليه كما يبتليه بتضييق الرزق وتقديره عليه، وأن كليهما ابتلاء منه وامتحان، ثم أنكر سبحانه على من زعم أن بسط الرزق وتوسعته إكرام من الله لعبده، وأن تضييقه عليه إهانة منه له، فقال: (كَلاَّ)، أي ليس الأمر كما يقول الإنسان بل قد أبتلي بنعمتي وأنعم ببلائي..” (عدّة الصابرين ص:132).
قال وهب بن منبه: «..وكذلك ابن آدم إذا استقر وقنع بما قسم الله له من رزقه أحياه ذلك وأصلحه، فإذا تعاطى رزق غيره نقصه ذلك وضره وفضحه» (البداية والنهاية لابن كثير9/312).

فتنة للدعوة
في الوقت الذي ينبغي أن تتكاثف فيه جهود كل من الفقراء وإخوانهم الأغنياء لخدمة الدين والدعوة إليه، ونصرته والذود عن حياضه، أوقَدَ إبليس هذه الفتنة للإيقاع بين المؤمنين، وإيقاد نار العداوة بينهم وإشغال بعضهم ببعض، وصرفهم عن ما يصلح دنياهم وآخرتهم، والإجهاز على الدعوة والقضاء عليها في مهدها بإفساد التعاون المفروض حُصولُه بين الأغنياء بمالهم، والفقراء بجهدهم، وطلبة العلم بعلمهم، وأصحاب الجاه بجاههم، وكل مسلم بما حباه الله ووفقه له، خدمة للدين ونصرة لسنة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.. فيا فرحة الشيطان بهذه الفتنة!!

دعوة للتــأمل
إن الغني لم يختر غناه، وإنما الله هو الذي أغناه، وَهَبْ أن غناه كان باختياره، فهل هو مسوغ لبغضه والحنق عليه لمجرد ذلك؟
وإن الفقير لم يختر فقره بنفسه، وإنما الله الذي أغنى الغني هو من كتب عليه الفقر سبحانه وتعالى، وإن من تمام شكر الغني لنعمة الله عليه أن لا يجعلها سببا للتعالي على إخوانه والتكبر عليهم وازدرائهم واحتقارهم..
أقول هذا محذرا من شيء أرجو أنه غير واقع، وإلا فإننا لنعلم إخوانا لنا بسط الله لهم الرزق، ووسع عليهم في المال، ومع ذلك لم يحل ذلك بينهم وبين التواضع وخفض الجناح ولين الجانب ودماثة الخلق.
وكما أنه لا يجوز أن يُحتقر الفقير لفقره ويُزدرى؛ فكذلك لا يجوز أن يهجر الغني ويُحذر ويُشار إليه بالأصابع وتختلس منه النظرات، لا لشيء إلا لأنه غني فإن المسلمين إخوة ولا فرق بينهم.
بل لا يجوز أن يُحكم على كل من وسّع الله عليه في الرزق بالانحراف والفسوق لمجرد غلبة هذا الأمر في الأغنياء.

بشراكم أيها الفقراء!
وإن مما يزيد الفقراء رضا بما قُسم لهم معرفة ما أعدّه الله لهم يوم القيامة، فقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَالُوا فَإِنَّا نَصْبِرُ لَا نَسْأَلُ شَيْئًا».
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ خَمْسُ مِائَةِ عَامٍ» قال الترمذي والألباني: حسن صحيح.
وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع أخرى أن هؤلاء لم يكن عندهم شيء يحاسبون عليه، هذا مع جهادهم وفضلهم؛ أخرج الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المهاجرون يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة، أو قد حوسبتم، فيقولون بأي شيء نحاسب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله، حتى متنا على ذلك، قال: فيفتح لهم، فيقيلون فيه أربعين عاما قبل أن يدخلها الناس» قال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/507): أخرجه الحاكم وقال: صحيح شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الألباني: إنما هو على شرط مسلم فقط.
وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ وَإِذَا أَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ».
فاتق الله أخي الفقير وإياك والتسخط والاعتراض على حكمة الله عز وجل، ولا شك هذا قد يفضي عياذا بالله تعالى إلى الحسد.
وليكن لنا عبرة في فقراء الصحابة الذين لم يهمّهم ما يتنعم به أهل المال من مأكل ومشرب وملبس، ولا تطلعوا لذلك، وإنما كان همّهم ما يستأثر به أهل الغنى من طاعات وقربات، وما يقدمونه لربهم من حسنات بأموالهم، فغبطوهم على ذلك.. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: «ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ؛ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ. قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؛ تُسَبِّحُونَ، وَتَحْمَدُونَ، وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ..» متفق عليه.

وأنتم أيها الأغنياء!
اعلموا أن الغنَى نعمة من نعم الله عليكم، فاحمدوا الله عليها، واعلموا أن شكر هذه النعمة يقتضي أن لا تجعلوها حاجزا بينكم وبين إخوانكم الفقراء، فإنه لا فرق بين العباد إلا بالتقوى، وانظروا يا رعاكم الله لحرص النبي صلى الله عليه وسلم على الجمع بين الناس فقرائهم وأغنيائهم في كل موطن حتى في الوليمة؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» متفق عليه.
ألا فليتق الله أناس سخروا جهودهم وأعمالهم للتفريق بين المؤمنين، وإفساد ذات بينهم، والسعي بينهم بالغيبة والنميمة، إيغارا للصدور، وإثارة للأحقاد، وإحياء للضغائن..
دخل عليهم من الحسد والبلاء ما لا يحيط به قول ولا وصف، ولو قَنَعوا بما قسم الله لهم واستحضروا الأدب الإسلامي في تعاملهم ومعاملاتهم لكان أمر حياتهم أمرًا آخر؛ أمَا وقد أعرضوا عن فطرة خالقهم، ولم يسلموا ويستسلموا لِمَا أقامهم عليه، فقد عاشوا معيشة ضنكًا، وخسروا الدنيا قبل الآخرة.
نسأل الله الكريم بمنه وكرمه أن يرزقنا القناعة والرشاد والسداد في الأمر كله، وإن كبير النفس وعالي الهمة ليترفع عن التفكير في مثل هذه السفاسف فضلا عن أن يسخر لها وقته وجهده، والله ولي التوفيق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *