لقد اقتنعنا -ومعنا حججنا- بأن البركة تسري من المبارك الحي إلى المبارك له الحي مثله عن طريق الدعاء وتلقي العلم وقراءة المؤلفات. واقتنعنا بأنها تسري من المبارك الحي إلى المبارك له الميت عن طريق الدعاء وحده.
ثم اقتنعنا بأنها تصل إلى الميت عن طريق وقف وقفه كصدقة للفقراء والمساكين وأبناء السبيل. وعن طريق ما تركه من علوم يستفيد منها طلاب العلم والمعرفة. ثم عن طريق دعاء ولده له بشرط أن يكون هذا الولد من الصالحين.
أما إذا لم يوقف الميت وقفا، ولا خلف علما، ولا ولدا صالحا. فإن كتابه أو سجله الذي طوي بوفاته بكل ما فيه من حسنات ومن سيئات؛ سوف لن يطرأ عليه أي تغيير يذكر -حسب ظاهر الشرع- إلا حين يدعو له أحد المؤمنين من أقاربه أو من غير أقاربه بالرحمة والغفران. إنما على أساس أن يقبل الله دعاء من دعا له. إذ ليس كل من دعا لغيره يستجاب له!
وها هنا الإشكال الذي علينا مناقشته. نقصد على وجه التحديد ما يمكن إدراكه في الآتي:
1- ما مراد قوله سبحانه في سورة الذاريات: ” {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ”؟
2- ما مراده من قوله في سورة الحشر: “وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”؟
3- وما الذي يعنيه قوله تعالى في سورة المدثر: “كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ”؟
لنكن مقتنعين أولا بأنه عز وجل لم يخلق الجن، ولم يخلقنا نحن البشر إلا لكي نعبده ونوحده في الشدة والرخاء؛ والعبادة تعني الطاعة؛ والطاعة تعني الامتثال لأوامره؛ والاجتناب لنواهيه.
ونفهم ثانيا ما يعنيه أن ينهرنا بشدة لأننا نسيناه بترك شكره وتعظيمه وتملقه والاستغاثة به، إذ لو تمادينا في نسيان حقه علينا، لأنسانا بالمقابل حق أنفسنا، فنصبح حينها من الفاسقين، مع التنبيه إلى أن الفسوق هو الخروج عن طاعته. والفسوق بكافة صوره وبكافة تجلياته، إعلان صريح عن الزندقة التي تلقي بأصحابها في أتون ساخن من جحيم ليس له قاع وليس له قرار!
وندرك ثالثا كيف أن كل نفس مرتهنة بكسبها، مأخوذة بعملها الذي يخلصها أو يوبقها، أي يهلكها. بحيث إن تخليصها هو نجاتها. في حين أن إيباقها هو معاقبتها. يتعلق الأمر هنا بما يكسبه المؤمن من الحسنات، وبما يكسبه من السيئات.
إن الإنسان إذن ما خلق إلا ليعبد خالقه. وعندما يواظب على عبادته يجازيه عن أقواله وعن أفعاله. وكل قول من أقواله، وكل فعل من أفعاله، إما أن يقربه منه، وإما أن يبعده عنه. بحيث يكون القرب منه سعادة. وبحيث يكون البعد عنه شقاوة. إلى حد أنه بإخلاصه وبصدقه وباستقامته تستجاب دعواته. وإلى حد أنه بريائه وبكذبه، وحتى بتلكؤه في أداء الأعمال التعبدية، وكأنه يستثقلها، ربما لن تستجاب دعواته.
إنها إذن خطوط عريضة تفتح أمامنا أبواب التمييز -في الظاهر لا في الباطن- بين من تستجاب دعواتهم بإذن ربهم القائل: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ”. وبين من لا تستجاب دعواتهم بنفس الإذن، أو بنفس الإرادة والمشيئة. خاصة وأنهم لم تتحقق فيهم بقية مراد الله في الآية إذ يقول: “فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”! يعني كما يقول مجاهد بن جبر: “فليجيبوا إلي فيما دعوتهم إليه من الإيمان . أي في الطاعة والعمل”. أما من انتفى عنه هذان الشرطان، فعليه أن لا يتوقع من الله الإجابة قبل توبة نصوح يعلنها ويلتزم بها. وهذا بين من قوله صلى الله عليه وسلم: “الرجل يطيل السفر؛ أشعث أغبر؛ يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام؛ وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له”. وكيف به إن هو أصبح واحدا من المروّجين للضلال. غارقا في الابتداع. ومتلونا في الافتراء على الله وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بكل ما يقوله، وبكل ما يفعله، وبكل ما يدعو إليه!
فبماذا إذن نميّز بين الفاضل الصادق. وبين المخادع المرائي الكذاب. إن لم نميزه بالآيات وبالحديث النبوي الذي سقناه للتو؟ كيف نعرف الأول؟ وكيف نعرف الثاني؟ لِما لمعرفتنا بهما من نفع قد يكون هو الإقبال على الخير. وقد يكون هو الابتعاد عن الشر. إذ الإقبال على الخير، والخيرُ والخيّرون فضيلة، في حين أن الإقبال على الشر، والشرُّ والشرّيرون رذيلة؟
نعرف الفضلاء المتدينين المخلصين بصفتين ذكرهما الزاهد: الفضيل بن عياض. وعنه أخذناهما: نقصد “الإخلاص” و”الصواب”. بينما نعرف المخادعين بـ”الرياء” و”الابتداع”. فمن تأكد لنا إخلاصه وصوابه وقَّرناه واحترمناه وقصدناه وطلبنا منه الدعاء و”البركة”. نقصد ما ننمي به معارفنا الدينية كي تزداد من حيث الكم ومن حيث الكيف. أما من تأكد لنا ضعف دينه إلى حد تمسكه بذنَب ضلالة كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. فإننا لن نوقره ولن نحترمه ولن نزوره ولن نؤويه في منازلنا اقتداء بالمختار الذي نهانا عن إيواء مبتدعين ضالين مضلين.
وكبرهان على صحة ما ندعيه، قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي”.
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قوله: “استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي وقال: “لا تنسنا يا أخي من دعائك”! فقال: كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا! وفي رواية: “أشركنا يا أخي في دعائك”.
وعن عمر كذلك قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة. وكان به بياض. فمن لقيه منكم فليستغفر لكم”.
نتساءل الآن -وقد قدمنا من الآيات ومن الأحاديث ما يعزز مفهومنا للبركة كتابا وسنة- فنقول: إن نحن خرجنا من النظري إلى التطبيقي-العملي فما الذي نجده؟
1- نجد مؤمنين أتقياء “مخلصين-صائبين”. كانوا علماء أو فقهاء أو زهاد أو محدثين. أو كانوا عامة الناس.
2- وقد نجد مبتدعين ضلاليين، يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم المخدوعون بهم من أولياء الله الصالحين ومن أحباء الله المقربين.
3- وقد نجد متظاهرين بالصلاح، أهدافهم الدنيئة لا صلة لها بالدين. حيث إننا نتمكن من الاطلاع على حقيقتهم بعد حين من إغوائهم أو من إغرائهم لنا على حد سواء!
4- وقد نجد متظاهرين بالصلاح دون أن يتم لنا كشف عوارهم وهم بيننا أحياء. ودون أن يتم لنا كشفه وأضرحتهم مبنية، والقباب عليها مرفوعة مشيدة!
5- وقد نجد أمثالهم حين اطلاعنا على حقيقتهم بعد وفاتهم بقرن أو بقرنين أو حتى بقرون.
يعني أن لدينا خمسة أصناف ممن نسعى إلى الحصول على بركتهم في حالتي الحياة والممات! أو في الحالة الأولى دون الثانية. أو في الحالة الثانية دون الأولى. إذ لا يعقل أن نكون قد عاصرنا كل ذي ضريح وكل ذي قبة! كما أنه لا يعقل أن نكون قد عاصرنا جميع العلماء والزهاد والصالحين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وكاستجلاء لما يحيط بهذا التقسيم الذي يلزمنا شرحه، نترك لسيد الناس نيابة عنا تولي بيانه حين يقول: “إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير. فحامل المسك: إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة. ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك. وإما أن تجد منه ريحا منتنة!
الدكتور محمد أبو نجيب