تعتقد الطوائف الفكرية المعاصرة المناوئة للخطاب الشرعي بأن الخطاب الشرعي غائب تماماً عن مقاصد الشريعة، ويرددون دوماً بأن الخطاب الشرعي لو تبنى “الشاطبي” لكنا في غير الحال التي نحن فيها الآن، وحين يحاول الباحث تحديد النتائج التي يعولون على الشاطبي والموافقات، وما المخرجات التي يراهنون عليها من توسيع وجود الشاطبي وموافقاته في العقل المسلم، يجد أنها تدور حول محورين:
الأول: أنهم يعتقدون أن تواجد الشاطبي في العقل الفقهي سيدفع باتجاه “تكثيف حضور المصالح الدنيوية” في الخطاب الشرعي، باعتبار أن مقاصد الشريعة تتضمن أولوية الحفاظ على النفس، والحفاظ على المال، ونحوها، ومثل هذه الأمور لا يوفرها الفقه التقليدي.
والثاني: أنهم يعتقدون أن الشاطبي ومقاصد الشريعة سيولدان ثورة فقهية لـ”تحرير العقل المسلم” من التعقيدات الفنية الفقهية، لأن علم مقاصد الشريعة يدور حول “كليات عامة” يستطيع الجميع المشاركة فيها، وبالتالي ستضمن هذه المنهجية التخلص من سلطة النصوص الجزئية، وسلطة السلف، وسلطة الشيخ، وسلطة سد الذرائع، ونحوها من السلطات التي كبلت العقل المسلم، وهذا ما يفتح المجال واسعاً لدور العقل، والرحابة مع الاختلاف، والتسامح الفقهي، ونحوها.
هذان المحوران (تكثيف حضور المصالح الدنيوية، وتحرير العقل المسلم من السلطات الفقهية التقليدية)، هما أبرز الرهانات التي دفعت الطوائف الفكرية المعاصرة لكثرة استحضار الشاطبي والموافقات ومقاصد الشريعة، ونقد الخطاب الشرعي المعاصر بأنه يقوم بعملية مقاطعة صامتة للشاطبي وموافقاته.
ما مدى يا ترى صحة هذا النقد؟ وما مدى علمية هذه الرهانات؟
لن أذيع سراً إن قلت للقارئ الكريم أنني لم ألتقِ بأحدٍ من مناوئي الخطاب الشرعي الذين يتحدثون عن الشاطبي إلا وسألته: هل قرأت الموافقات؟ فهل تصدق أن الجواب يأتي دوماً برفض خجول!
وأنا إلى هذه الساعة لم أقابل أحداً ينتقد الخطاب الشرعي بعدم تبنيه للشاطبي وهو قد قرأ فعلاً الموافقات للشاطبي.
في كل مرة أحاور شخصاً من مناوئي الخطاب الشرعي عن الشاطبي والموافقات لا أستطيع كظم تبسمي، لأن هؤلاء لو قرؤوا الشاطبي والموافقات فعلاً لفروا منها فرار المستجير من الرمضاء بالنار.
الشاطبي أصلاً يقع في الجناح المحافظ من الفقهاء، وحياته رحمه الله كانت صراعاً مع ظاهرة التساهل الفقهي والعقدي، وكتابه الموافقات من أعنف الكتب في تقويض الأطروحات العلمانية والليبرالية والتنويرية واليسارية في قراءة الإسلامأجعنف ، لما يتضمنه من فصول رصينة التصميم والبرهنة في ترسيخ تعظيم النصوص الجزئية، ومرجعية السلف في فهم الإسلام، ومركزية الآخرة، ونحوها من أصول أهل السنة المصادمة لطريقة الطوائف الفكرية المعاصرة.
فكيف لا أتبسم وأنا أرى مدعياً يختار أقسى القضاة عليه؟!
حسناً، لنحاول أولاً أن نفهم من هو الشاطبي عبر التعرف على السياق الفقهي/التاريخي الذي تحرك فيه، ثم نعرض جزءاً من مفهومه وتصوره لمقاصد الشريعة، ونختم هذا الفصل بعرض شيء من منتجات الخطاب الشرعي المعاصر في علم المقاصد.
-أزمة الشاطبي مع ظاهرة التساهل الفقهي:
كان الشاطبي في “بداية طلب العلم” يدرس عند الشيخ أبي سعيد ابن لب (782هـ) خطيب جامع غرناطة في الأندلس، وكان الشيخ ابن لب معروف بـ”التساهل الفقهي” في الفتيا في بعض الأحيان، فإذا جاءه مستفتٍ في مسألة خلافية لم يبحث في الأرجح دليلاً بل يفتي بأهون القولين على المستفتي، وهي طريقة “أخذ الأهون على الناس في الخلافيات”.
وكان الطالب إبراهيم بن موسى الشاطبي غير مقتنع في بداية الأمر بهذه الطريقة، وتحاور الشيخ مع طلابه -بمن فيهم الشاطبي- وانفض المجلس ولم يقتنعوا بطريقته، فدعاه شيخه هو ومجموعة من الطلبة ذات يوم وناقشهم طويلاً حتى أقنعهم بقضية “تخيير المستفتي في المسائل الخلافية”، وقد روى الشاطبي نفسه هذه القصة في كراسة صغيرة كتبها أثناء بداية الطلب وكان اسمها “الإفادات والإنشادات” (وهي مطبوعة حالياً) وأكثر فيها من الفوائد عن شيخه أبي سعيد بن لب هذا، سندع الآن الشاطبي يحكي لنا هذه الواقعة، وأعتذر مسبقاً عن نقل النص بطوله ولكن قيمته التاريخية أجبرتني على ذلك، يقول الشاطبي:
(إفادة: كنت يوماً سائراً مع بعض الأصحاب إذ لقينا شيخنا الأستاذ المشاور أبا سعيد بن لب -أكرمه الله- بقرب المدرسة، فسرنا معه إلى بابها ثم أردنا الانصراف، فدعانا إلى الدخول معه إلى المدرسة، وقال أردت أن أطلعكم على بعض مستنداتي في الفتوى الفلانية وما شاكلها، وأبين لكم وجه قصدي إلى التخفيف فيها -وكان قد أطلعنا على مكتوب بخطه جواباً عن سؤال في يمين أفتى فيها بمراعاة اللفظ والميل إلى جانبه، فنازعناه فيه في ذلك اليوم، وانفصل المجلس على منازعته- فأرانا مسائل في “النهاية” و”أحكام ابن الفرس” وغيرهما، وبسط لنا فيها بما يقتضي الاعتماد على لفظ الحالف وإن كان فيه خلاف ما لنيته، بناء على قول من قال بذلك من أهل المذهب وغيرهم، وقال: أردت أن أنبهكم على قاعدة في الفتوى وهي نافعة جداً ومعلومة من سنن العلماء وهي أنهم ما كانوا يشددون على السائل في الواقع إذا جاء مستفتياً. وكنت قبل هذا المجلس تترادف علي وجوه الإشكالات في أقوال مالك وأصحابه، فلما كان بعد ذلك المجلس شرح الله بنور ذلك الكلام صدري، فارتفعت ظلمات تلك الإشكالات دفعة واحدة، لله الحمد على ذلك ونسأله تعالى أن يجزيه عنا خيراً وجميع معلمينا بفضله) [الإفادات والإنشادات، ص153].
ثم شاء الله سبحانه وتعالى أن يواصل الطالب إبراهيم بن موسى الشاطبي طلبه للعلم، ويتبحر في الاطلاع على أقوال السلف وفحص النصوص الشرعية، فاكتشف أن طريقة شيخه أبي سعيد بن لب في “الأخذ بالأيسر في الخلافيات” أنها طريقة مناقضة لأصول الشريعة، فلما صار الإمام الشاطبي معدوداً من “أهل الفتيا” في الأندلس في زمن شيخه أبي سعيد بن لب ذاته، صار لا يفتي الناس بهذه الطريقة التي اعتاد شيخه أن يفتي الناس بها، بل صار يحمل الناس –في المسائل الخلافية- على الأرجح وليس على الأيسر، وصار ينافح عن هذا المنهج عبر التنظير الفقهي والتطبيق الفتوي.
ثم كتب كتابه الموافقات، وسيطر عليه في جزء كبير من الكتاب الرد على طريقة أبي سعيد بن لب، فعقد فصولاً كثيرة كلها تدور حول نقض هذه الطريقة، أي نقد طريقة “التيسير على المستفتي بالأهون في الخلافيات”، ومن الفصول التي عقدها لذلك: تتبع رخص المذاهب، أن مقصد الشارع إخراج المكلف عن داعية هواه، وغيرها.
ثم لما انتهى من الفصول النظرية لنقض هذه الطريقة التيسيرية، عقد فصلاً آخر جاء في مطالعه قوله:
(ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة، فضلاً عن زماننا؛ تتبع رخص المذاهب اتباعاً للغرض والشهوة) [5/84].
وحكى في هذا الفصل من حكايات وطرائف المفتين الذين يتساهلون في الفتيا على أساس الخلاف.
ومع براعة هذه الفصول التي عرضها الشاطبي، وقوة البرهنة فيها، إلا أنه يبدو لي شخصياً أن أعمق برهان عرضه هو توضيحه بأن هذه الطريقة التيسيرية تجعل “الخلاف” أقوى حجية من “الوحي” فيصير الخلاف حاكماً على الوحي، وليس العكس، كما يقول الشاطبي:
(مما في اتباع “رخص المذاهب” من المفاسد: الانسلاخ من الدين بترك “اتباع الدليل” إلى “اتباع الخلاف”، وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط) [5/102].
يتبع في الحلقة القادمة بحول الله..