لأمير الشعراء أحمد شوقي مسرحية شعرية رمزية، على ألسنة الحيوانات، عنوانها: (شريعة الغاب)، وملخصها: محكمة تُعقد لمعرفة المذنب الذي بسبب ذنوبه انتشر الطاعون في المملكة. ويذكر الأسد والذئب والضبع ذنوبهم العظيمة، التي فيها تقتيل الناس وسفك دمائهم دون رحمة؛ لكن الثعلب الماكر -وهو المكلف بالقضاء في هذه النازلة- لا يرى في ذلك غضاضة، ولا يعدّه جُرما!
ثم ينطق الحمار المسكين، فيقرّ أنه كان يوما جائعا فأكل من عشب ذابل قرب دير، فيصيح الثعلب حينئذ: (كن الذبيحا!).
ويقول الأسد بعنجهية:
هـذا الـذي جـلــب الـوبـاء بـأكـلـه***مال الصوامع واستحلّ دماءَنا
فخذوا احرقوه واجعلوا من جسمه***لله قـربـانــــا يـكـون شـفـاءنـا
ويلخص الثعلب عبرة القصة بقوله في آخرها:
إن الفتى إن كان ذا بطش مساوئُه شريفَه
أما إذا كان الضعيفَ فإن حجّتَه ضعيفَه!
ألحّت عليّ ذكرى هذه المسرحية الشعرية التي قرأناها قديما، حين تابعتُ بعض الأحداث الأخيرة.
يقتلُ بعض جهلة المسلمين عددا محصورا جدا من الغربيين، لا وجه لمقارنة عددهم بقتلى المسلمين الذين لا بواكي لهم، فتقوم الدنيا ولا تقعد، ويُتهم المسلمون بكل منقصة، ويُذمون بكل لسان، وينبزون بكل مذمّة.
بل يسري النقد والتجريح إلى الإسلام نفسه، فيتهم تراثه العظيم الذي أنجب حضارة راسخة الجذور، وارفة الظلال، دانية الثمار، لقرون عديدة متطاولة، بالنقص والتخلف والرجعية والعنف، وبما شئت من ألفاظ التنقيص.
وتتعالى الدعوات للمراجعة والتنقيح، ويختلط في خضمّ الصياحِ غيرِ المنضبط حابلُ الثوابت القطعية بنابل المتغيرات الاجتهادية، فيوضع الجميع في سلة واحدة، ويُجلبُ عليه الباطل بخيل الشبهات ورَجْلها. ويتسارع الناس لإبداء البراءة من الفكر «التراثي الرجعي»، ويتنصلون من ذبح الآمنين بذبح ثوابت الأمة على نُصُب الثقافة الغربية المهيمنة!
هذه ثقافة الذليل وردة فعله!!
فحين كانت الاشتراكية غالبة، رأينا المؤلفات عن اشتراكية الإسلام، واكتشفنا أن أبا ذر الغفاري -رضي الله عنه- كان اشتراكيا!
وحين صارت الديمقراطية غالبة، سمعنا أن الديمقراطية من صميم الإسلام، وإنْ هي إلا الشورى بلفظ مغاير!
وحين رفع الغرب شعارات الحرية الفردية وحقوق الإنسان، رأينا الفكر الإسلامي يُصهر في بوتقة هذه المبادئ، ليخرج موافقا لقالبها الجاهز، ولو بتكلف كثير في تأويل النصوص، أو تقعيد الضوابط!
أما هم فتعاملوا معنا كما يتعامل كل عزيز مع كل ذليل (مع أنهم الأذلاء على التحقيق، لو أننا نحسن الفهم والتدقيق)؛ فأنكروا علينا جرائرنا الصغيرة، كما فعلت حيوانات الغابة مع الحمار المسكين، وتغافلوا عن جرائمهم الخطيرة، التي يتضاءل أمامها كل جرم إنساني مادي في العصر الحديث، بل في العصور كلها!
تغافلوا عن الآلاف -بل الملايين- من قتلانا في حروب «الاستعمار»، ثم في حروب تحررية أخرى في شرق العالم الإسلامي وغربه.
وحين أذكر الملايين، لا أملك إلا أن أقول: إن للأعداد الرياضية سحرا عجيبا، يجعلها تختزل الألم الكثير والشر الفظيع في كلمات قليلة مبتسرة. فالمليون كالواحد في الأثر النفسي، بل يكون أقل أثرا حين يرافقُ الواحدَ صياغةٌ هوليودية، تجعل الدموع تنهمر رأفة به، وتعاطفا معه، وحين يفتقر المليون إلى تلك الصياغة/الصناعة، فلا يكون غير الموت الصامت الذي لا يأبه له أحد، بل يمرّ على عين القارئ كلمةً باردة برود الموت الذي تمثله!
لقد فعل بنا الغربُ الأفاعيلَ منذ نشأةِ حضارتِه الحديثة، وهي حضارة مبنية في جوهرها على الفلسفة النيتشوية الداروينية التي تقدس القوّة، وتقرر أن البقاء للأقوى والأصلح، مع الانفصال التام عن القيم الدينية، بسبب السيطرة المتفردة للعلمانية المهيمنة.
وعلى الرغم من وضوح التلازم بين هذا الفكر المؤطِّر، وهذه الممارسات الهمجية، فإن الغربيين لم يفكروا قط في إعادة النظر في فكرهم وفلسفتهم لإرضاء الشعوب التي يجعلونها ثفالا لرحى حضارتهم الامبريالية.
إلا في حالة وحيدة..
وذلك حين انتقل عنف الحضارة الغربية إلى عقر دار الغرب خلال الحرب العالمية الثانية، وأصاب -فيما أصاب- اليهودَ المتحكمين.
حينئذ -ولهول الصدمة التي أصابت قلب أوروبا- روجعت مفاهيم فلسفية كثيرة!
وهنا قد يقول قائل:
ما ذكرتَه معروف لدينا.. ولكننا نسعى إلى إصلاح فكرنا لا ليرضى الغربُ عن أشخاصنا، ولكن ليرضوا عن ديننا، فنحبّبه لهم وندعوَهم إليه!
وجوابي على هذا الاعتراض من ثلاثة أوجه:
أولها: هذه حيلة نفسية معروفة، تحاول أن تبرر بها موقفك وتُظهر نفسك في مظهر العزيز الذي يقف مع القوم في موقف الندّ لا في انحناءة المتذلل. ومما يبرهن على هذا، أن المسلمين لم يفكروا قط -في حال قوتهم- في تغيير معالم فكرهم لإرضاء أهل الملل الأخرى، ولا فكّر الغربيون اليوم في تبديل أسس فلسفتهم لتوافق ما عندنا. فدل هذا على أن العقلاء متفقون -عندنا وعندهم- على هذا المعنى.
والثاني: أن المطلوب منا دعوتهم إلى الإسلام كما هو، أي: كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، لا إلى شيء يقبله الغربيون، وتسميه أنت: الإسلام!
فالعبرة بالمسميات والمعاني، لا بالألفاظ والتسميات. وتغييرُك معطيات التمرين ليمكنَك حلّه بيسر وسهولة، لا يعني أنك نجحت في حل التمرين فعلا!
وهذا يشبه الذي يقال له: المطلوبُ منك في لعبة الشطرنج أن تأخذ الملك من الخصم، فيترك قواعد اللعب المعقّدة، ويخطف الملك بخفة يد، ظنا منه أنه قد حقق المطلوب!
والوجه الثالث: أن السنن الكونية تقتضي أنه لا يمكن للمغلوب أن يُقنع الغالبَ صاحبَ الثقافة المهيمنة بآرائه، إلا أن يدخلها التحريف والتبديل. فالمغلوب تابعٌ أبدًا لا متبوع!
وقد اشتهر قول ابن خلدون في مقدمته: (.. في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. والسبب في ذلك: أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه..) [المقدمة:1/283].
فإن قيل: إن التتار أتوا إلى بلاد المسلمين فسيطروا عليها، لكن سرعان ما تأثروا بالمهزومين فاعتنقوا الإسلام. ألا يناقض هذا تقريرك؟
فالجواب: لا يناقضه بل يؤكده، وذلك من وجهين:
الأول منهما: أن التتار اعتنقوا الإسلام بالاسم فقط، وبقوا على شرائعهم التي اعتادوها، ومنها الياسق الذي وضعه لهم جنكيز خان. وهذا شبيه بما يريده بعض المنادين بتنقيح التراث، حين يعرضون على الغربيين دينا محرّفا لعلهم يتبعونه، مع الإبقاء على أصول عقيدتهم العلمانية التي ألفوا!
والثاني: إن التتار لم يكونوا يحملون فكرا حضاريا متكاملا يمكنه أن يهدد التشكيل الفكري الموجود عند المسلمين، وإنما هي قوانين عسكرية وسياسية صارمة يتوارثونها. أما الغربيون فإنهم ما انطلقوا «للاستعمار» إلا بعد أن تشكّلت لديهم ترسانة فلسفية متكاملة في عصر النهضة ولا تزال مستمرة إلى اليوم، لا يحلون ببلد إلا سعوا إلى نشرها بين أهله!
وختاما.. لكَ أن تقول:
إذا كنا لا نستطيع بمقتضى السنن الكونية -لأننا مغلوبون- أن نفرض فكرنا على الغالبين، ولم يكن بوسعنا من جهة الشرع أن نغير أسس فكرنا ليلائم حضارة الغرب المهيمنة، فما المطلوب إذن؟
وجوابي لك:
المطلوب الذي لا ينبغي العدول عن السعي لتحقيقه: أن تفعل الجائز في الشرع، والممكن في الواقع، ولا لوم عليك -بعد ذلك- إن نجحت أو فشلت، إذ ليس ذلك لك.
ومن الغلط أن ترهن أبناءك من بعدك بفكر محرّف تضع أصوله اليوم مستعجلا به نشر فكرك الأصيل!
ولعلك حين تبذر البذرة السليمة اليوم لا ترى الشجرة الوارفة التي تنبت منها، بل قد يراها أبناؤك أو أحفادك. فاحذر أن تعوّض ذلك ببذرة عشب سرعان ما ينبت، لكنه لا يغني غناء الدوحة الباسقة التي نرجو أن نتفيأ ظلالها يوما ما.
وعسى أن يكون قريبا!