وهمية الصراع بين العلم والدين في البيئة الإسلامية -الحلقة الثانية- أبو الفضل حسن فاضلي

في رِحاب القرآن الكريم وبتوجيهٍ منه، قامتْ في العالَم الإسلامي نهضةٌ علمية، ووصَل علماء المسلمين مِن خلالها إلى تحديد خُطوات منهج البحْث العلمي الاستقرائي، بل طبَّقوه على أبحاثه، ووَصَلوا مِن خلاله إلى كثيرٍ من الابتكارات العلمية في مختلف المجالات، كالطبيعة والكيمياء والفلك والطب، وحسبنا أن نذكُر جابر بن حيان في مجال الكيمياء، وأبا حنيفة الدِّينوري في علم النبات، والرَّازي وابن سينا وابن النفيس وابن رشد في عِلم الطب، وغيرهم، مما يدلُّ على أنَّه لا مجالَ للصراع بيْن الدِّين والعِلم في الإسلام، بل على العكس، فالإسلام يدعو إلى البحْث العِلمي، ويوجِّه أنظارَ الناس إلى استكشاف حقائقِ الوجود، والكشْف عنِ العلل والأسباب والعلاقات”[1].
فهذه أسبابٌ ثلاثة -وغيرها كثير- تبيِّن بعمقٍ الخطأَ الذي وقعتْ فيه النظرةُ التي تروم الحُكم على الإسلام مِن خلال المناهج الغربيَّة الماديَّة؛ لإثبات أنَّه دين بدون دولة، وعقيدة بدون شريعة، وهذا ما لم يقلْه أحدٌ من العقلاء قط، ولإثبات أنَّ الدين والعِلم خصمان لا يلتقيان، وعنصران لا يتقاربان، وهذا ما لم يقلْه أيضًا أحدٌ مِن العقلاء قط، فإذا كان العِلم في نظرهم طاقةً من طاقات الإنسان، أو حصيلة تعامل قُدرات عقلية وحسيَّة يمتلكها الإنسانُ مع الطبيعة والأشياء، فإنَّ الدِّين هو منهجٌ كامل للحياة البشرية يسعَى إلى تنظيمِ علاقات الإنسان، ليس بالطبيعة فحسب، بل بكلِّ ما له علاقة به؛ بنفْسه، بأخيه الإنسان، وبأسرته ومجتمعه، بسلطاته المسؤولة، بالأُمم والشعوب الأخرى، وبالطبيعة والعالَم والكون، هذه العلاقات التي تنبثِق جميعُها عن إيمانٍ وإدراك عميقَيْن بالله سبحانه، والتزام مسؤول لمنهجه ودِينه[2].
هذا المنهج -الذي هو الدِّين الإسلامي- يظهر على حرَكات الإنسان وسَكناته، وهو يعكِس إيمانَ الإنسان به، فلا يُمكِن أن يكونَ هناك إيمان، ولا يظْهر في حياة الإنسان العمليَّة والأخلاقيَّة، وإذا ظهرتْ حياة الإنسان بغير مظْهَر الإسلام، فاعلم أنَّ القلب فارغٌ مِن الإيمان، وهذا ما أكَّده أبو الأعلى المودودي في “الأسس الأخلاقية للحركات الإسلامية”، الذي يرى أنَّ الإسلام: عبارة عن ظهورِ الإيمان في صورة عمَل، فعلاقة الإيمان بالإسلام كعلاقة البَذْر بالشجرة، فحيثما كان الإيمان، كان لزامًا أن يظهر في حياة الإنسان العملية، وأخلاقه ومعاملاته للناس، وكفاحه وذوقه، وقواه وكفاءاته… وإذا كانتِ الحياة العملية تجري بقضِّها وقضيضها في مجرًى غير إسلامي، فاعلم أنَّ القلب خِلْوٌ من الإيمان، وأنَّه من المستحيل وجودُ إيمان في القلب وعدم ظهوره بمظهر الإسلام في الأعمال، وإنَّ الإيمان الاعتقادي والإسلام العملي متلازمانِ فيما بينهما، وقد قرَن الله بينهما في غير ما موضعٍ من كتابه العزيز، وإنه ما وعَد بما وعَد من حسن الجزاء والثواب، إلا لعباده الذين هم مؤمِنون اعتقادًا ومسلمون عملاً”[3].
فمِن خلال كلام أبي الأعلى المودودي -رحمه الله- نعلم أنَّ الإسلامَ والإيمان عبارة عنِ اعتقاد وعمل، وما بينهما مِن تشريع ونظام وأخلاق، بعيد عن كلِّ أشكال التثليث والخُرافة المقدَّسة، فالإسلام لم يأتِ “بالعبادة وحْدَها حتى يُبنَى على الكهنوت والوسائط والقداسات، وإنما هو عبادةٌ وحكومة، وتشريع ونظام وأخلاق، تعمل جميعُها على تكوين المواطن الصالِح، المفكِّر الحر، البعيد عن الخُرافات والأوهام”[4].
فإذا تأكَّد هذا الأمر، كان علينا أن نبيِّن أمرًا آخَر، وهو أنَّ (العلم) ذُكِر في القرآن الكريم في غير ما موضع مرادفًا للدِّين نفسه، وللنظام الذي تقوم به المخلوقات، وللحقائق الثابِتة في أم الكتاب، وهذا الأمر في غايةِ الأهمية، أو بعبارة أخرى: “إنَّ كلمة (العلم) وردتْ في القرآن الكريم مرارًا كمصطلح على الدِّين نفسه الذي علمه الله أنبياءه، على النواميس التي يُسيِّر بها الله ملكوته العظيم، على الحقائق الكبرى الموجودة عندَ الله -سبحانه- في أم الكتاب، وكإشارة إلى القِيَم الدينية التي تنزَّلت من السماء، ومن ثَمَّ يغدو (العلم) و(الدين) سواءً في لغة القرآن”[5].
وهو ما يَعني أنَّ الإسلامَ بهذه الوسطية والرَّحْمة والعدْل والحق، يرفُض الجهل والإخلال بالمبادئ الأساسية للعقيدة، كما يرفُض المنهجَ القائم على إقْصاء الرُّوح أو المادة، ويرفُض كلَّ أشكال الإلحاد الناتِجة عن الجهْل بمكوِّنات الإنسان، فهو -أي: الإسلام- “يؤكِّد على الدعوة إلى العلم، ويلحُّ في طلَبه، بشرْط انسجامه مع الحياة، وألاَّ يخلَّ بالمبادئ الأساسيَّة للعقيدة والقِيَم الأخلاقية، وإذا كان العِلم أساسه التوازن بيْن الرُّوح والمادة، فهو منهجٌ صالِح في الإسلام، وسبيلٌ للسعادة ببُعدَيْها المادي والمعنوي، وينبذ الإسلامُ ذلك العلمَ القائم على التخريب والإلحاد، والذي يرجِّح المادةَ على غيرها، فهو ينبوعُ الحضارة المادية، ومن ثَمَّ يستنكره الإسلام، وينكره التاريخُ الإسلامي، والتاريخ جزءٌ مِن العلم، فهو عِلمي وصفي؛ إذ يصف مواقفَ المفكِّرين المسلمين الداعين إلى العلم”[6].
إنَّ الإسلامَ في جانب الإعجاز العِلمي تضمن حقائقَ علمية، لم يدركْها المسلمون في القرون الأولى، فيما كشفتْ عنها العلومُ الحديثة بصورة تكشِف عن التطابُق التام بين حقائقه وبيْن النتائج العِلمية الحديثة، الأمر الذي بَهَر المنصِفين من علماء الغرْب، فاستسلموا لحقيقتِه وآمنوا به، بناءً على أنَّ كثيرًا مِن “النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، التي تُشير إلى حقائقَ عِلميَّة لم تكن معروفةً للناس وقتَ نزول القرآن، وكشفتِ العلوم الحديثة عن صحَّتها؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [سبأ:6]، وقدْ صنَّف العالِم الفَرنسي “موريس بوكاي” كتابًا في المقارنة بين الكُتب المقدَّسة وبيْن العلم الحديث، فخرَج بنتيجةٍ مذهِلة مسكتة؛ إذ كشَف عن التناقضات الكثيرة بيْن نصوص التوراة والإنجيل، وبيْن الكشوفات العلميَّة الحديثة، الأمر الذي لا يوجد في آياتِ القرآن الكريم، بل العكس تمامًا؛ فقد ذهل بمدى التوافُق والتناسق بين الحقائق التي أشار إليها القرآنُ الكريم، وبيْن ما توصَّل إليه العلماءُ في جميع العلوم التجريبيَّة”[7].
ولهذا الغرَض دعا القرآنُ إلى استعمال العقل بالتفكير، في غير ما موضِع، وذلك بعدَ أن هيَّأ له المساحة التي يمارس فيها هذا التفكير، ووضع له الحدود التي لا يَنبغي أن يتجاوزها، ووجَّهه إلى الضوابط التي يمارس بها تفكيرَه، وأعفاه مِن الموضوعات التي لا يُطيق الخوض فيها، وحتى إنْ فعل، سيظل حائرًا في بحْرها دون التوصُّل إلى الغاية والنتيجة التي قصَدها مِن تفكيره وبحثه هذا.
فـ”دعوة القرآن إلى استخدامِ الإنسان لملكاتِ تفكيره أمرٌ صريح لا يحتاج إلى تأويل، فالعقل مِن مقاصد الشرع، ومِن وظائف العقْل والتفكير في منظورِ الإسلام، أنَّه قضى على الخُرافات، وأبْطَل الكهانة والشعوذة، وركَّز على المسؤوليَّة الفردية كتركيزِه على المسؤولية الجماعية، وجعل الأمن على العقل مِن المقاصِد الضروريَّة، ووفقَ ذلك كفَل الإسلام المناخَ للعقل والحقل الخصب؛ ليتأمل ويعي ويفكِّر ويفهم… ووظيفة العقْل في الإسلام هي أساسُ معنى الفِكر الحر والتأمُّل في الكون، وكان للعقل أو للعقلية الإسلاميَّة أساس صياغة الحضارة الإسلاميَّة، وتأكيد ذلك في قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية:13]، فإنها تُشير إلى ممارسة الإنسان لوظيفةِ عقْله، ومزاولة نشاطِه المادي والرُّوحي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] نفسه، ص:223.
[2] تهافت العلمانية، ص26، (بتصرف).
[3] نقلاً عن “تهافت العلمانية”، ص99.
[4] الإسلام دين ودولة ونظام، ص117.
[5] تهافت العلمانية، ص37.
[6] الفكر الإسلامي في مواجهة الحضارة الغربية، 1/168.
[7] فقه السياسة الشرعية، ص:16.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *