أحدث الرأي الذي أبداه فضيلة الدكتور أحمد الريسوني عن جواز القروض المقدمة في إطار برنامج انطلاقة، حالة صحية من السجال العلمي في المنابر الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي لا تزال تداعياتها مستمرة لحين كتابة هذه الأسطر. وقد تفضل جمع من الباحثين والأساتذة الفضلاء بالتأكيد على أن المقرر في الفقه الإسلامي أن الزيادة المشروطة في القرض يسيرها وكثيرها سواء في التحريم، وأن الزيادة ولو كانت خدمة أو منفعة غير نقدية فهي ممنوعة ما دامت متمحضة للمقرض على المقترض.
إن الشريعة التي تَوَجَّع صاحبها عليه الصلاة والسلام لمبادلة بلال رضي الله عنه لرديء التمر بجيده مع المفاضلة فقال: “أَوَّهْ أَوَّهْ عين الربا لا تفعل…”، والتي منعت بيع الرطب بالتمر لتفاوت المثلية بينهما في المآل كما في الحديث “أينقص الرطب إذا يبس؟”؛ لم تكن لتتساهل في يسير الزيادة النقدية على رأس مال القرض مع معلومية هذه الزيادة.
بل إن الفقهاء نصوا في باب الربا على أن الجهل بالمماثلة كالعلم بالمفاضلة. وهذا جواب كاف في الحقيقة لمن يظن ظناً أن الفوائد والأرباح إنما هي لتغطية المصاريف التي ينبغي للمقترض أن يتحملها. فما دام هذا الأمر ظناً لا يقين تحته فهو جهل برد المثل يستوجب التوقف والتدقيق حتى يُتحقق من ذلك، لاسيما وأن قرينة وطبيعة عمل البنوك التجارية تستدعي استصحاب أصل ربحية المعاملات البنكية لا العكس.
لكن لمزيد بيان، نسلط الضوء في هذا المقال على الجانب الاقتصادي والمالي لما ذكر في تبرير القول بالجواز وذلك دون الخوض في دعوى الضرورة والحاجة العامة المجيزة للمحظور لارتباطه بالمبحث الفقهي الأصولي راجياً أن يكون تصحيح التصور مبعثاً لإعادة النظر الشرعي من القائلين بالجواز وهم أهل لذلك إن شاء الله.
وهذا آوان الشروع في المقصود وسنوجزه في بحث السؤالين التاليين:
1/ هل الربح الذي تحصل عليه الجهات المقرضة يسير جداً لا يقارن مع المبالغ المرصودة من أجل هذه المعاملة؟
2/ لماذا يمنع رد القرض بالقيمة تعويضاً عن التضخم؟
ربحية القروض البنكية:
صحيح أن الفرق بين معدل فائدة الإقراض (٪2 في المدن و٪1,75 في القرى) وفائدة إعادة التمويل -taux de refinancement- المقدم من البنك المركزي في برنامج انطلاقة (٪1,25) ضعيف نسبياً ولا يتجاوز ٪0,75. وإذا تم خصم مصاريف القرض ربما يكون أقل بعض الشيء. لكن من الخطأ في تصور المسألة عند من يبني القول على يسير الربح وكثيره أن يظن أن ربح البنك يقتصر على:
فرق الفائدة x المال المستثمر من أصول البنك.
ولعل توضيح الصورة بشيء من التفصيل يحسم مادة الخلاف عن ربحية المعاملة على الأقل.
كمدخل لابد منه، تنقسم النقود إجمالاً إلى نوعين:
⁃ نقود مركزية monnaie centrale/fiduciaire يستحدثها البنك المركزي وتشمل النقود الورقية والمعدنية إضافة للنقود الإلكترونية التي تمثل احتياطات البنوك لدى البنك المركزي.
⁃ نقود بنكية monnaie bancaire/scripturale إلكترونية تستحدثها البنوك التجارية عن طريق الإقراض.
من الخصائص التي تميز البنك التجاري عن باقي الشركات المالية، قدرته على خلق النقود وذلك أن البنك لا يقرض المتمولين أوراقاً نقدية بطبيعة الحال وإنما يضع مبلغ القرض في صورة نقد إلكتروني في حساباتهم الجارية. فإقراض 100 مليون درهم مثلاً ينجم عنه إحداث 100 مليون جديدة من النقود البنكية الإلكترونية في الحسابات الجارية التي يمتلكها المقاولون.
في نظام الاحتياطات الجزئيةsystème de réserves fractionnaires الذي يؤطر الأنظمة البنكية المعاصرة لا يُلزَم البنك التجاري إلا بنسبة ضئيلة من النقود المركزية لتغطية الحسابات الجارية ويحتفظ بها في احتياطاته لدى البنك المركزي. نسبة الاحتياطات الإلزامية réserves obligatoires لدى بنك المغرب تبلغ حالياً ٪2.
لإقراض 100 مليون درهم وتوليد 100 مليون من الودائع الجارية لا يحتاج البنك إبتداءً إلا لـ2 مليون درهم. وعند قيام المقاولين بتحويل هذه المبالغ من حساباتهم لحسابات أخرى في بنوك أخرى لأداء الأجور وشراء الاَلات وما يتطلبه المشروع، يحتاج البنك حينئذ لتحويل احتياطاته من النقود المركزية للبنوك المستقبلة للتحويلات. في أسوء الحالات، إذا كان البنك لا يملك ما يكفي من السيولة لإجراء هذه التحويلات سيلجأ لاقتراض الـ100 مليون من بنك المغرب بسعر فائدة ٪1,25 ويكسب معدل فائدة من المقترضين في حدود ٪2 و٪1,75.
من جهة أخرى، وَوفقاً لمعايير بازل 3 لإدارة المخاطر، يلزم البنك المركزي البنوك بحد أدنى من رأس المال لتقليص مخاطر أصولها.
ابتداء من سنة 2018، أصبحت هذه النسبة من رأس المال إلى مجموع أصول البنك لا يمكن أن تنزل عن ٪3 مهما قلت مخاطر البنك بمعنى أنه لا يمكن للبنك أن يولد نقوداً للإقراض أكثر من 33 مرة من مجموع ما يملك من رأس مال حقيقي. وقد تم الإعلان من طرف بنك المغرب أنه سيتم تخفيف قواعد حساب الحد الأدنى من رأس المال المساهم في تمويل القروض المنضوية تحت برنامج انطلاقة مقارنة بباقي القروض. لكن إلى حين الحصول على تفصيلات أكبر، سنعتمد نسبة ٪3 لتقدير أولي للأرباح يساعدنا على الفهم.
تحصل لدينا الآن، أنه لمنح 100 مليون درهم من القروض يلزم البنك أن يساهم بـ3 ملايين درهم من رأس ماله وليس 2 مليون التي توجبها نسبة الاحتياطات الإلزامية ٪2. وكيفما كان التخفيف المرتقب يمكن إعادة هذا التقدير باعتماد أعلى النسبتين بين ٪2 ونسبة الحد الأدنى من رأس المال إلى مجموع الأصول.
من الطبيعي أن نسبة من المشاريع الممولة ستتعرض للإفلاس، وَلْنَقُل مع كثير من التشاؤم أن نصفها سيفلس إفلاساً تاماً بحيث لا يرد أصل القرض. عند الإفلاس يتدخل صندوق الضمان المركزي ليضمن المستحقات في حدود ٪80. على ضوء هذه الفرضية المتشائمة، يُحَصِّل البنك ٪90 من المستحقات: ٪50 من نصف المقاولين الناجحين و٪40=٪50x٪80 من جهة صندوق الضمان المركزي عن نصف المقاولين المتعثرين. بذلك يكون ربح البنك يساوي على الأقل:
فرق الفائدة مع اعتبار الإفلاس x مبلغ القروض الموَلَّد من المبالغ المرصودة من البنك.
في مثالنا:
م0,325 =(مx100٪-1,75٪ x 1,25٪90)
بما يحقق للبنك معدل ربح سنوي ٪10,83 حتى مع إفلاس نصف المشاريع.
لاحظ أن معدل الربح السنوي تم حسابه بقسمة الأرباح (0,325 مليون درهم) على الأصول المرصودة من البنك (3 ملايين درهم) وليس على 100 مليون التي تم إقراضها!
وهذا بيت القصيد الذي يجعل معدل الربح السنوي من رقمين وليس ٪2 التي يتم النقاش حولها وهل تغطي المصاريف والتضخم أم لا. وحتى مع حد أدنى لرأس المال يفوق ٪3 لن ينزل الربح غالباً عن رقمين، وذلك أن البنك لا يقترض بمعدل إعادة التمويل من البنك المركزي كل ثلاثة أشهر باستمرار بل يحدث أن يصير عنده فائض سيولة على حساب البنوك الأخرى عند التسوية compensation ولذلك فتكلفة الإقراض باعتبار كل مدة البرنامج ستكون لا محالة أقل من ٪1,25، إضافة إلى أن معدل الإفلاس قد يكون أقل بكثير مما افترضناه.
النقطة الثانية: لماذا لا يعوض المقرض عن التضخم وعن القيمة الزمنية؟
من المقرر عند جماهير الفقهاء أن:
“الأجل يأخذ قسطاً من الثمن” (ابن تيمية)
وأن “الخمسة نقداً تساوي ستة نسيئة” (الغزالي).
وهذا ما يعبر عنه بالقيمة الزمنية في الاقتصاد Valeur temps. والنقود التامة -المؤدية لوظيفتها- بخلاف السلع لها أفضلية زمنية بوجود التضخم وعدمه. وذلك أن 100 في يدك تستطيع إنفاقها لشراء سلع وخدمات وتستطيع استثمارها أو إبقاءها سائلة في يدك إلى المستقبل. فكيفما كان اتجاه الأسعار فلا مزية لتأخير امتلاك النقود عن امتلاكها اليوم، ما دامت النقود تؤدي وظيفتها وتحفظ قيمتها الإسمية. وهذا لا يتأتى في النقود السلعية التاريخية التي تتآكل مع الزمن وتخسر قيمتها الإسمية، ولا في جميع السلع الاستهلاكية، فقد يفضل تأخير امتلاك أو استهلاك بعض السلع لاحقاً عن تعجيلها.
ومن هنا يصح التساؤل: إذا كان 100 نقداً اليوم لا تساوي 100 نقداً في المستقبل -لوجود التضخم أو لمجرد التفضيل الزمني حتى مع غياب التضخم كما سبق- ألا يتضرر المقرض باسترداد 100 في المستقبل؟
الجواب نعم يتضرر، لكنه إذا فعل ذلك على وجه الإحسان والإرفاق يؤجر من الله تعالى على ذلك الإنظار. وهذا يدل من جهة أخرى على وجود القيمة الزمنية فلولاها لما تُصُوِّر معنى الإحسان في إقراض من يتيقن قدرته على السداد وقد أحسن د.رفيق المصري في بيان هذا الباب أيما إحسان.
ولقائل أن يقول إذا كنت متضرراً فأنا أفضل استلام 102 في المستقبل التي تعادل 100 اليوم وتجبر الفرق ولا أريد الأجر الأخروي في القرض؛ سواء قلنا ٪2 هو معدل التضخم أو معدل التفضيل الزمني أو مجموعهما.
فالجواب: لاشك أن الشرع رغب في القرض الحسن ولم يوجبه على المكلفين، غير أن مبادلة 100 ب 102 مستقبلاً لا تحقق العدل المنشود هي الأخرى. وذلك أن 100 لا تنمو من تلقاء نفسها لتتحول ل102 بطريقة سحرية بل لا مناص من استثمارها لتنمو. وطبيعة الاستثمار وخلق الثروة لا ينفك عن مخاطرة تهدد رأس المال فضلاً عن الأرباح. بل لو وجد استثمار حقيقي يحول 100 ل 102 بيقين ولا يتصور فيه الخسارة أبداً لما توانى أحد عن الاستثمار فيه.
فحقيقة القرض الربوي إذاً، أنه دفع لمال واشتراط استرداده مع زيادة يقينية في الوقت الذي لا يمكن تحصيل زيادة يقينية في الاقتصاد الحقيقي، ولذلك يوجب العقد الربوي أن يدفعها المقترض من مورد آخر عند الإخفاق إلا أن يحاط به فلا يجد أي مورد، وهذا ظلم عند كل عاقل. قال الله تعالى: “فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون”.
والتضخم لا يخرم هذا، فالمحافظة على القدرة الشرائية للنقود لا يحصل إلا بتنميتها بمعدل التضخم، وهذا أمر لا يتحصل بيقين فلِمَ وجب على المقترض ضمان القيمة وتعويض المقرض إذا كان هذا الأخير لا يستطيع تنمية ماله بمعدل التضخم بيقين.
إذن لا مبادلة 100 ب 102 عادلة ولا مبادلة 100 ب 100 عادلة، ولذلك لم يشرع مبادلة الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا يداً بيداً مثلاً بمثل سواء بسواء، إلا أن تخرج مبادلة ال 100 معجلة ب 100 مؤجلة مخرج الإرفاق في القرض الحسن فيؤجر المرء على هذا الإيثار في الآخرة. أما المعاملة التي تحقق العدالة للطرفين فهي “الخراج بالضمان” والمشاركة في المخاطرة، وفِي الربح والخسارة، كما هو مبسوط في مظانه.