سلسلة مرافعات في الدعوة السلفية المرافعة الثالثة: السلفية.. و(التسامح) (3) عما يتحدثون..؟

عما يتحدثون حينما يتهمون السلفية باللاتسامح؟
فإن كانت (السلفية نظريا)..فهذا مقصد كلامي، وإن كانت (السلفية تطبيقا)! وكانوا يقصدون التعميم فهذا أيضا مقصود عندي، وإن كانوا يقصدون بعض السلفيين فنقول لهم: فلم الإطلاق في الاتهام؛ ولم تخصيص السلفيين بذلك والمشكل يعم المنتسبين إلى كل الفرق والطوائف الدينية والسياسية والفكرية والفلسفية.. وكأنهم بريئون مما يرموننا به، وهم أولى بذلك منا.
فالفرق شاسع بين تخطئة الأشخاص وتخطئة المناهج! وإلا لجاز للنصارى الطعن في الإسلام بسبب سوء تصرف بعض المسلمين كما يفعلون الآن!!
أعود مرة أخرى لما انسقت إليه أولا: ما موقف العلمانيين والصوفية من التسامح؟
وهل يتسامح العلمانيون والصوفية مع السلفيين؟
المتتبع لمقالاتهم وكتاباتهم وبياناتهم وتصريحاتهم بل وتصرفاتهم يعرف جيدا مدى التسامح الذي يتميزون به عن السلفيين!!!
تسامحهم ظاهر في دعواتهم إلى حبس خصومهم وعدم تمكينهم من المنابر ومنعهم من الكلام في القنوات الإعلامية الكثيرة!! وتجنب حوارهم ومناظرتهم مخافة الفضيحة؛ وخشية من قوة حجة السلفيين وقدرتهم على التأثير في الناس؛ لأن دعوتهم واضحة يقبلها العقل.
وقد استغربت مرة من تصريح لإبراهيم عيسى الصحافي الليبيرالي المصري زعم فيه أن السلفيين لا يقدرون على الحوار لضعف حجتهم..بل ليس عندهم قدرة على ذلك!
وليس هذا ما يستثير النظر؛ بل دعواهم أنهم أهل التسامح.. وأنه لا تسامح إلا تسامحهم.. وقاحة جعلت الأستاذ عبد الوهاب المسيري يقول في كتابه: (العلمانية تحت المجهر): (إن ارتباط “العلمانية” بالتسامح واتساع الأفق والتعددية وقبول الآخر والإيمان بالعلم ليس ضروريا).
يقصد رحمه الله أن العلمانية كغيرها..قد لا تتسامح.. وعندي أن عدم التسامح لازم لها اليوم عمليا..! ولا فائدة بعد هذا من تحكيم التنظيرات العلمانية لتسامحها! والأستاذ المسيري لا يقول ذلك جزافا بل له دلائله  فإنه قال في (ص:142): (هناك أمثلة في الفكر والتاريخ العلماني تبين مدى القسوة التي يمكن أن تصل إليها النظم العلمانية..)، ثم ضرب لذلك أمثلة منها: (الاقتصاد الحر) و(اقتصاديات السوق) جنبا إلى جنب مع (الداروينية الاجتماعية والعنصرية النازية)!! وهذه ضربة مسددة منه!
قالت: التسامح مقتضاه وجود المسامحة من الطرفين..! فكيف يريدونها من جهتنا دون جهتهم!! وكيف يأمروننا بما هو من طبيعتنا وينسون أنفسهم (أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم…). ولذلك قال الأستاذ علي النملة في كتابه إشكالية المصطلح في الفكر العربي، الاضطراب في النقل المعاصر للمفهوما (ص:84): (لا يريد هؤلاء المفكرون العرب بالضرورة ذلك التسامح من باب التفاعل أي التبادل في السماحة، فلا تعمم تبعات الفعل على الجميع )!!!
حذو القذة بالقذة.. يتبعون محاولات النصارى تشويه الإسلام وجحد محاسنه… حينما أنكروا على المسلمين عدم تسامحهم زورا وبهتانا.. وجعلوا التسامح من خصائص مدنيتهم المكثلكة، وفي بعض كتبهم المقدسة أن المسيح عليه السلام قال: (أجبروهم على اعتناق دينكم)، كما في (التعصب والتسامح للغزالي ص:56) وفي إنجيل متى (10/34): (ما جئت لألقي سلاما بل سيفا)!!!
وكما فعل فيكتور هيغو حينما رمى عمر بن الخطاب بأنه غير متسامح… حيث اتهمه بأنه هدم الكنائس وبنى بحجارتها مساجد.. وهو كذب وتزوير للتاريخ وخيانة للتجرد العلمي في البحث، وعذر الرجل إن كان له عذر أنه كان شاعرا حالما كبير المخيلة..
وهذا إسقاط منه للحالة التي كانت عليها الهمجية الفرنسية في الجزائر التي حولت المساجد إلى كنائس وهدمت أخرى.. كالبخيل يرمي غيره بالبخل ليلفت نظر الناس عن الاشتغال بعيبه وبخله! وكما نقول في دارجتنا: (الديب ما كيعاود غير على فعايلو) فهل حركة الإمبريالية الأوروبية توافق الحالة العلمانية للفكر التنويري! اللهم هذا منكر!
هكذا هم العلمانيون..فإن تسامحوا فتقية أو احتقارا أو لأمر في نفوسهم!
يقول عبد الوهاب المسيري رحمه الله: (إن التسامح العلماني هو في واقع الأمر شكل من أشكال عدم الاكتراث بالدين، وأنه يتم تقبل الإسلام والآخر ما دام الأمر لا يشكل أي تحدِ حقيقي وجوهري، ولكن إن تحدى الآخر منظومات الغرب القيمية والمعرفية بل والجمالية، فإن الغرب يكشر عن أنيابه).
وقال محمد ناصر العطوان في مقال له في جريدة الرأي العدد 11627 – 02/05/2011؛ ص:44 بعنوان: (خرافة التسامح العلماني): (إن وجه الشبه بين التسامح العلماني وبين جمال القمر الذي يتغزل به العشاق، هو أنه كلما اقتربت من الإثنين بان لك قبحُهما الواضح).
ليس كل من ادعاها سلمت له.. وهو أمر دفع محمد عابد الجابري إلى أن يقول في كتابه (قضايا في الفكر المعاصر؛ ص:26): (برهن تطور الأمور أن المنادين بالتسامح؛ وحتى الذين أعلنوا تمسكهم به بقوة؛ لم يكونوا مستعدين دائما للسير بهذا المبدأ إلى أبعد مما يتحمله المذهب الذي يدينون به؛ وتقتضيه مصلحة الدولة التي ينتمون إليها؛ ويرضون عنها).
ويقصد الجابري أن للتسامح عند دعاتها حدودا يضعونها باجتهادهم تحت دعوى مصلحة الدولة، كدعوى فولتير ضرورة حصر الوظائف العامة والمراتب الرفيعة في من يعتقدون بدين الدولة، لأنه كان يعتقد أن الدين ضروري لضبط الشعب).
ولعلي لا أخطئ حين أقول: وهو ما يفعله أتباع الديانة العلمانية…!
وهو ما فعله أيضا مفكروا عصر التنوير، كما قال جون هرمان راندل في كتابه (تكوين العقل الحديث؛ ترجمة جورج طعمة ص:540): (كان عصر التنوير مستعدا للتسامح في أمر الاختلاف الديني لا السياسي..).
قال الجابري: (واضح إذن أن مفهوم التسامح ولد في حظيرة الإيديولوجيا والسياسة ليوظف توظيفا سياسيا إيديلوجيا ).. بل حتى الحرية الدينية التي لا حد لها عندهم كان نوعا من الاستبداد كما يقول ميرابو كما ذكر هرمان (1/541)!!  فتأمل هذا وقارنه بما يفعله العلمانييون اليوم.
وانظر إلى سياسة التشهير والافتراء والتدليس والتزوير في المنابر الإعلامية عندهم، وانظر إلى التعصب العلماني في تركيا وتونس… وقد سقط القناع! تسامحهم تسامح تكتيكي تبريري انتهازي كما سماه محمد أركون.. وهو من المكر السيء.. ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
والشواهد قائمة على أن العلمانيين استئصاليون إقصائيون.. لا يحترمون حقنا في الاعتقاد والفكر والدعوة إليهما… بل يتهموننا أو قل يسبوننا ويرموننا بالظلاميين والرجعيين والمتخلفين والماضويين والمتطرفين.. وليس لهم الحق في ذلك إن كانوا منصفين
إن من مقتضى التسامح عندهم رفع قلم النقد وطي صحف الانتقاد.. وإلا  فما قولهم في كتاب: (نقد الفكر الديني) لصادق جلال العظم العلماني وكتاب (قضايا في نقد العقل الديني) لمحمد أركون العلماني وهو أستاذ كثير من العلمانيين المغاربة.
أحلال لكم حرام على السلفيين والإسلاميين؟!
ولعل أول دليل على عدم تسامح العلمانية أنها لا تتسامح مع الدين في دخوله السياسة.. بل لا تتسامح مع الله تعالى في أن يحكم قوله فيها! وانظر إن شئت كتاب: (نقد التسامح الليبرالي) للدكتور محمد بن أحمد المفتي، وهو من إصدارات مجلة البيان!
فإن كان العلمانيون صادقين في تسامحهم؛ بل إن كانوا صادقين في عَلمانيتهم.. فليتجنبوا فرض علمانيتهم على غيرهم…لأن عدم فرضها هو السبب الصحيح الوحيد لوجودها كما يقول آرشي أوغستاين في (وجهة نظر مسيحية: دفاعا عن الجهاد) ترجمة محمود الواكد..
فأين الإنصاف؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *